وبقى النظر في المندوب هل وقع موقعه في الندب أم لا فإن قلت إن ترك المندوب هنا واجب عقلا فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب وإن قلنا إنه واجب شرعا بعد من انتهاضه سببا للثواب إلا على وجه ما وفيه أيضا ما فيه فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة قصدا أو غير قصد ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبى الدرداء رضى الله عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه المشرف والقيام على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويجرى مجراه - وإن لم يكن في رتبته - أن لو كان ذلك الالتزام يفضي به على ضعف بدنه أو نهك قواه حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله أو أداء فرائضه على وجهها أو الجهاد أو طلب العلم . كما نبه عليه حديث داود عليه السلام أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقد جاء في مقروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم قال أبو سعيد الخدري رضى الله عنه فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا قال فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد . فصيام النفل أولى بهذا الحكم وعن جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال ليس من البر الصيام في السفر يعنى أن الصيام في السفر وإن كان واجبا ليس برا في السفر إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد مع وجود الرخصة فالرخصة إذا مطلوبة في مثله بحيث تصير به آكد من أداء الواجب فما ليس بواجب في أصله أولى فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده .