أما الأول فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصل فيه أصلا راجعا إلى قاعدة معلومة لا مظنونة وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفى عن الشريعة كما أن أصل الحرج منفى عنها لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة ولا سماح مع دخول الحرج فكل من الزم نفسه ما يلقى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه وصار إدخال للحرج على نفسه من تلقاء نفسه لا من الشارع فإن دخل في العمل على شرط الوفاء فإن وفى فحسن بعد الوقوع إذ قد ظهر أن ذلك العمل إما غير شاق لأنه قد أتى به بشرطه وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق وسيأتي وإن لم يوف فكأنه نقض عهد الله وهو شديد فلو بقي على أصل براءة الذمة من الالتزام لم يدخل عليه ما يتقى منه لكن لقائل أن يقول إن النهى هاهنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل - كما قالت عائشة رضى الله تعالى عنها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد فقيل له افعل واترك أي لا تتكلف ما يشق عليك كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك لأن الله إنما وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسير يشترك فيه القوى والضعيف والصغير والكبير والحر والعبد والرجل والمرأة حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف يسقط عنه جملة أو يعوض عنه ما لا حرج فيه كذلك النوافل المتكلم فيها وإذا روعى حظ النفس فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل فله أن لا يمكنها من حظها وأن يستعمله فيما قد يشق عليها بالدوام - بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ فلا يكون إذا منهيا - على ذلك التقدير - فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالبا له وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب كذلك جاء النهى حفظا على حظوظ النفس فإذا أسقطها صاحبها زال النهى ورجع العمل إلى أصل الندب والجواب أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال إنه من حقوق الله على العباد وقد يقال إنه من حقوق العباد فلا ينهض ما قلتم إذ ليس للمكلف خيرة فيه فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله