( واعلم ، أن سر الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل الله من الماء كل شئ حي . وما ثم شئ إلا وهو حي ، فإنه ما من شئ إلا وهو يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي . ولا يسبح إلا حي . ) سر الحياة هو الهوية الإلهية السارية في جميع الأشياء بظهورها في ( النفس الرحماني ) أولا ، وبسريانها بواسطته في كل شئ حصل منه ثانيا . وذلك لأن سر الشئ غيبه المستور فيه ومعناه الظاهر بصورته . ويجوز أن يراد به نفس الحياة وحقيقتها . أي ، حقيقة الحياة سارية في الماء وكلاهما متقاربان ، لأن الهوية الإلهية هي المتجلية بالصفة الحياتية لا غيرها . وإنما جعل الماء أصلا لغيره من العناصر والأركان ، لما نطق به الحديث النبوي من ( ان الله خلق درة بيضاء ، فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة ، فذابت حياء ، فصار نصفها ماء ونصفها نارا ، فحصل منهما دخان ، فخلق السماوات من دخانها والأرض من زبدها ) . قيل : ( الدرة ) هي ( العقل الأول ) . وفيه نظر . لأن ما ذاب وصار شيئا آخر لا يكون باقيا على تعينه الذاتي ، والعقل الأول باق على تعينه ، لا تقبل التغيير أصلا . بل المراد بها ما قبل صور العناصر من الهيولى العنصرية ، والله أعلم [2]
[2] - واعلم ، أن لفظ ( الدرة البيضاء ) يدل على أنها جوهرة شريفة روحانية . والمراد من قوله : ( ذابت ) أي ، تنزلت الماء الحياة وسالت أودية بقدرها من دون تجافيها عن مقامها الشامخ . وكان الواجب على الشارح العلامة التأمل في الروايات الواردة في خلق الأول ، أي ، أول ما ظهر من غيب الوجود من تجلى الحق بالتعين بالاسم الأعظم الوجود المنبسط . وقد ورد من طرق الخاصة ، أي الإمامية الجعفرية ، والعامة : ( أول ما خلق الله العقل ) . و ( أول ما خلق الله نوري ) . و ( أول ما خلق الله الماء ) . و ( أول ما خلق الله القلم ) . وقد روى على ، عليه السلام ، عن النبي ، صلى الله عليه وآله - مما سئل عن ( العقل الأول ) - أنه ( ص ) قال : ( جعله الله ملكا له رؤوس بعد رؤوس الخلائق ، واسم كل موجود كتب فيه ) . إلى أن ساق الكلام بقوله : ( ألا ، وأن مثل العقل كمثل السراج في اللبيب ) . وورد أيضا : ( أول ما خلق الله القلم ) . و ( أول ما خلق الله اللوح ) . وقال على ، عليه السلام ( في الكافي ، حديث ( العقل والجهل ) ) : ( العقل أول خلق من الروحانيين ) . وجه تسميته ب ( العقل ) لأن أول ما صدر عن الحق موجود مجرد عن المادة والمقدار . ووجه تسميته ب ( القلم ) أنه تبارك وتعالى قال للقلم بعد خلقه : ( أكتب علمي في خلقي إلى الأبد ) . وقال تعالى للعقل ، أو القلم ، ( على اختلاف الروايات ) : ( أكتب القدر ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد ) . أو ( إلى يوم القيامة ) . لقد كثرت الأسماء في نور نبينا والمسمى واحد . فباعتبار أنه كان درة صدف الخلائق ورد عن العامة والخاصة : ( أول ما خلق الله درة بيضاء ، ما خلق الله جوهرة مثل درة . فنظر إليها فذابت ، فخلق منها . . . ) . الروايات المنقولة في باب الخلق ( الأول ) كلها منطبقة على النور الأحمدي والحقيقة المحمدية ( ص ) ، لأنه نور الأنوار والقلم الأعلى الواسطة لظهور الحقائق من خزائن الغيب وتسطير الحقائق وترقيمها في المراتب والمظاهر على سبيل الترتيب . ووجه تسميته ب ( العقل الكلى ) من جهة أنه خلاق للصور المفصلة ، و هذه ( الدرة ) التي عبر عنها بجوهرة لم يخلق مثلها ، لأن هذه الدرة بعد صدورها عن المرتبة الألوهية بالاسم الأعظم ، وقع نظره تعالى إليها ، وتجلى باسمه ( الباسط ) عليها ، ( فذابت ) أي ، ظهرت بالوجود التفصيلي من كينونتها القرآنية بصورة الفرقان والتفصيل من دون تجافيها عن مقامها الأصلي ، لأنها ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت ) . ولذا قال الله تعالى للعقل الأول : ( أقبل . فأقبل . ثم قال له : ( أدبر . فأدبر ) . وهذا بعينه مطابق لقوله : ( فنظر إلى الدرة ، فذابت ) . أي ، فصلت وتنزلت إلى الدنيا رحمة جامعة للرحمتين : ( الرحمانية ) و ( الرحيمية ) . والشارح العلامة من جهة عدم تدر به في الحكمة المتعالية عجز عن درك معنى قوله ، عليه السلام : ( أول ما خلق الله الدرة . . . فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة ، فذابت ) . وزعم أن الذوبان من خواص الأجسام قد وما تأمل في قوله ، صلى الله عليه وآله : ( أول ما خلق الله الدرة ) . ولم يتأمل في قوله ، عليه السلام : ( إن الدرة جوهرة لم يخلق مثلها ) . وصرح ، عليه السلام ، في هذه الرواية أنها أفضل خلق في العالم . وإذا تصدى لمعنى قوله : ( فذابت ) تحير ولم يرتق فكره إلى كيفية تنزل الحقائق عن الغيب ، وحمل أو فهم عن قوله ، عليه السلام : ( فذابت ) الذوبان الجسماني قد اعلم ، أن كل عارف صرف نقد عمره في المكتب الأشعري ، أو ابتلي في المحيط الأشاعرة أوان دراسته ، يصير متعبدا بهذه الطريقة الضالة زعما منه أنها طريقة السلف الصالح قد وإذا صار مستبصرا واختار طريقة أرباب المعرفة ، يبقى في زوايا فكره وخيابا نظره تبعات من ترهات الشيخ الأشعري كإنكار الحسن والقبح العقليين ، وغيرها من الهوسات التي ينبو عنها الطبع الإنساني . ( ج )