ووجدتهم فوق ذلك كله يصرفون أموالا ضخمة.. لا مكاسب واضحة لها.. ولكن
مكاسبها الخفية أعظم من كل المكاسب.. إن مكاسبها هي استعباد الإنسان نفسه، ليصبح
لعبة بين يدي تلك الوسائل تملي عليه ما تشاء، فلا يجد نفسه إلا مسوقا للتحرك حسب
رغبتها.
بعد أن امتلأت ألما بكل هذا.. رحت أبحث في واقعنا.. نحن
المسلمين.. نحن الذين كلفوا بأن يحملوا رسالة أعظم الأنبياء ليبلغوها إلى الأرض،
فيطهروها بذلك البلاغ من ورثة الشياطين، ومن رجس أذنابهم وذيولهم.. فازددت ألما
على ألم، وحزنا على حزن:
لقد رأيت الخطيب الذي يصعد المنبر وحوله الألوف المؤلفة..
فلا يلتفت لهم، ولا يحاول أن يسمعهم رسالة ربهم، وهدي نبيهم، بل ينشغل بورقته يقرأ
حروفها حرفا حرفا.. وأحيانا تتوقف به الحروف، فيقرأ ما لا يفهم، ويسمعهم ما لا
يفهمون.. وتنصرف بعدها الألوف المؤلفة، وكأنها كانت تمثل تمثيلية ساخرة، ولم تكن
تسمع كلام ربها أو هدي نبيها.
ورأيت الواعظ الذي ينشغل بالسجع والجناس والطباق والحروف
التي لا نقط لها والجمل التي تقرأ من الجهتين عن التسلل إلى القلوب لمحو الران
الذي يغشاها، والسموم التي تقتلها، والظلام الذي يسكنها.
ورأيت المفتي الذي يوزع الفتاوى بحسب هواه، يفتي في كل شيء،
ولا يتورع عن شيء، ولا يجعل فتاواه سلما يعرج به العباد إلى ربهم، بل يجعل منها
سما يشوه به الدين وحقائق الدين، ويجعل منها مهواة تنحدر بالمؤمنين إلى الهاوية
التي تسكنها الأهواء.
ورأيت المعلم الذي يتعامل مع تلاميذه كما يتعامل السيد مع
عبيده..
ورأيت غير هؤلاء ممن يستلمون المناصب العالية.. ولكنهم
بسلوكهم ينزلون بها إلى الحضيض الأسفل.
***
كانت أول مرة أسمع الغريب ينادني بذلك الإلحاح([2])، وأنا في غرفتي، فأسرعت أهرول إليه،
وقلت: اعذرني حضرة الولي الصالح.. لقد شغلتني نفسي كما تعودت أن تشغلني.
[2] أشير بهذا إلى أن الداعية الوارث هو الذي يبدأ بدعوة الناس إلى
الله، لا الذي يتنظر حتى يأتيه الناس، كما قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67)