سكت قليلا، ثم قال: لقد
رأيت النصوص المقدسة تأمر بالصوم، وليس علَى المسلمين إلَّا صوم رمضان.. فرحت أبحث
عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت أنه قَلَّما يمر به شهر، أو أسبوع من شهر؛ إلَّا
كان يصوم فيه.. ونهى المسلمين عن صوم الوصال؛ لكنه كان يواصل الصوم يومين ـ بل
ثلاثة أيام متوالية ـ لا يأكل فيهن ولا يشرب.. وكان بعض الصحابة يحب أن يقتدي به
في ذلك؛ فيقول: (لستُ كأحدكم؛ أيُّـكم مِثلي؛ إن ربي يُطعمني ويَسقيني)
وربما كان يصوم شهرين
متواليين: شعبان ورمضان.. وكثيرًا ما كان يصوم الأيام البيض (الثالث عشر، والرابع
عشر، والخامس عشر) مِن كل شهر.. وغيرها.
سكت قليلا، ثم قال: لقد
رأيت النصوص المقدسة تأمر المسلمين بإيتاء الزكاة وإنفاق المال في الخير.. فرحت
أبحث عن حياته في هذا الجانب.. فرأيت أنه بدأ ذلك بنفسه.. لقد سمعتم شهادة زوجه
خديجة له في ذلك؛ يوم قالت له: إنك تحمل الكَلّ، وتُعين علَى نَوائب الحق، وتُكسب
المعدوم.. إنه لم يأمر الناس بأن يتّبعوه في ترك الدنيا، ولم يقل لهم: ضَحُّوا بكلّ
ما في أيديكم من أموال، ولم يخبرهم بأن ملكوت السماوات موصدَة أبوابه في وجوه
الأغنياء؛ وإنما الَّذِي أوصاهم به أن يتصدّقوا ببعض أموالهم؛ بينما هو لم يكن
يدَّخر من المال شيئًا في بيته؛ بل كان يُنفق في سبيل الله جميع ما كان يملكه، ولم
يكن قليلًا ما كان يأتيه من خُمس الغانم ـ من ذهب وفضة ومتاع، وغيره من عَرَض
الدنيا ـ ؛ فكان يخرج عنه كله لغيره من الفقراء والمساكين، ولم يكن يتمتع هو ولا
أهل بيته بمُتَع الحياة الدنيا؛ فكان حظه وحظ أهل بيته من الدنيا الفقر والتعفّف.
وكان من سُنّته بعد أن
فُتِحَت أرض خيبر أن يوزِّع علَى أزواجه من الطعام والحبوب ما يكفيهم عامًا، لكنه
قبل أن ينقضي العام كان يَنفَذ ما وزَّعه علَى أزواجه؛ فيمسّهم الجوع والسغب؛ لأنه
كان يُنفق علَى المحتاجين وعلى الضيوف مما يجده في بيوت أزواجه.. يقول عبدالله بن
عباس: (إن رسول الله (ص) كان أسخانا
وأجودنا، وهو أسخَى ما يكون في شهر رمضان)، ولم يقل لسائل (لا) قطّ طول حياته، ولم
يأكل شيئًا وحده مهما كان قليلًا؛ بل يُشْرِك فيه أصحابه، وقد أذَّن في الناس أنّ
(مَن مات وعليه دَين؛ فدَينه عليّ أقضيه عنه، وما ترك من ميراث فميراثه لوَرَثته)
جاءه يومًا أعرابيّ؛ فقال:
يا محمد؛ إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك؛ فأوقر منه جَمَلي! فحمّله محمد من الشعير
والتمر، ولم يسخط عليه ما أغلظه من القول، ثم قال: إنما أنا قاسم وخازن، والله هو
المُعطي.