وقد ورد في الحديث
أن رجلا جاء إلى النبي فقال: ما عندي شئ
أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال له رجل: ما كلفك الله هذا، أعطيت
ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله قول الرجل، حتى عرف في وجهه، فقال المستقرض: يا
رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله
وقال: (بهذا أمرت)([28])
وفي حديث آخر: دخل رسول
الله (ص) على بلال، فوجد عنده صبرة
من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما
تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا)([29])
فهذه النصوص تبين أن
الرسول (ص) لم يكن يلاحظ قلة الرزق
التي في يده، أو في يد المؤمنين، ولكنه كان ينظر إلى أن صاحب العرش العظيم الذي لا
تساوي كل أموال الدنيا أمامه شيئا لا يعجز أن يسد فاقته إن هو احتاج.
وهو في ذلك يشبه صاحب بنك
ضخم ممتلئ بجميع أصناف الأموال، فهو لا يخشى على جيبه إن فرغ ما فيه من مال، لأنه
يعلم أن لديه من العوض ما يملأ جيبه وجيوب غيره جميعا.
قال الشاب: وعيت هذا، ولا
أحسبني أحتاج إلى أدلة عليه، فكل حياة رسول الله (ص) تشير
إليه.
قال جعفر: فاعبر من ظاهر
الأدلة إلى بواطنها، ومن صورها إلى خبرها.. فلا ينتفع بمعرفة الحقائق إلا من عبر
منها ولها، كما لا يدخل الجنة إلا من جاوز السراط.
سكت الشاب قليلا، ثم قال:
أرى من الناس من لا يعتبرون العارف إلا من تحدث عن الفناء في الذات.. ويعتبرون كل
ما ذكرته فناء في الأفعال أو فناء في الصفات.. وكل ذلك حظ السالكين، لا حظ
العارفين.
ظهر الغضب على وجه جعفر،
وقال بقوة: كذب من حدثك عن الذات.. كذب من حدثك عن الذات.. لا يعرف الله إلا
الله.. لا يعرف الله إلا الله.. ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ (الزمر:
67)
ليس حظنا من معرفة الله
إلا معرفة الأسماء.. ألم يسمعوا الله وهو يقول:﴿ سَبِّحِ