ثم إن من قال كلاما فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن
كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.. بينما نجد في القرآن تكرار
كثير، ومع ذلك، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولا يظهر التفاوت أصلاً.
زيادة على هذا فإن في
مواضيع القرآن ما قد يوجب اختلال فصاحة أي فصيح، ولكن القرآن يطرقها طرقا جميلا،
فلا تؤثر فيه المواضيع مهما تبادعت أغراضها، اسمع إليه، وهو يعبر عن أركان طهارة
المسلمين وأنواعها في إيجاز بليغ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}(المائدة:6)
ولهذا تجد القرآن أصلا
للعلوم كلها، فعلم لاهوت المسلمين كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن،
وعلم أصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال
مكارم الأخلاق كلها مستنبطة من القرآن مأخوذة منه.
فالقرآن لا يقصد الكلام
البليغ لذات الكلام البليغ، بل يقصده ليستخدمه وسيلة لتبليغ أغراضه.. وهذا خلاف
سائر الكلام.. فالشعراء الذين اهتموا بتزويق الكلام والحرص على زينته تاهوا فيما
لا حاجة فيه من وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة
أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد
شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه
إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها
هذر لا طائل تحته.