فيه من ذلك كله يعد دليلا على أنه من عند الله تعالى ، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم ، وانه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام البشر مثلهم [1] . ولأن القرآن الكريم المعجزة الخالدة بخلود رسالة محمد ( ص ) ، والمستمرة مع استمرارها ، كما هو واضح من الآية الأولى المذكورة في أعلاه ، قد يطرح السؤال التالي : بم يتمثل اعجاز القرآن الكريم الآن ، وقد ذهب العرب الفصحاء الذين استقبلوه أيام تنزيله وادركوا بذوقهم الفطري انه كلام الله تعالى لسموه في مستوى بيانه ونظمه فوق مستوى كلامهم ؟ وممن أثار هذا التساؤل مالك بن نبي ، قال في كتابه ( الظاهرة القرآنية ) : ان لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاقة طبقا لعبقريته ومزاجه . فالفراعنة مثلا - كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات ، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيمة ، تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم ، مثل الأب ( مورو ) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصميم الهرم الأكبر ، وما يتضمن من نظريات هندسية غريبة وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة . كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه فن ( فيدياس ) ، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية ( سقراط ) . أما العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم في لغتهم ، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية ، شأن الشعوب الأخرى . وانما كان العربي يفتن في استخدام لغته ، فينحت منها صورا بيانية لا تقل جمالا عما كان ينحته فيدياس في المرمر ، وما كانت ترسمه ريشة ( ليوناردو فانسي ) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى . فالشعر العربي - كما قال أخي الأستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب ( يعني