سبب اختلاف العباد في أفعالهم هو اختلاف قابليّاتهم ، لكن يعود البحث في القابليّة حينئذ ، فيقال : إنّ سبب إفاضة القابليّة ما هو ، ومفيضها من هو ؟
والجواب عنه كالجواب عن إفاضة الوجودات على الماهيّات واختلافها فإنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه ، لا أنّه ذوّت الذوات ، ثم أوجدها فإنّ ماهيّة الأربعة من حيث هي أربعة يقتضي الزوجيّة والتركيب من الآحاد الأربعة ، بخلاف الخمسة ، وكذا الجسم ماهيّة بحيث وجد في الخارج فهو قائم بنفسه بخلاف اللون ، فلو خلق اللَّه الأربعة خمسة أو الجسم عرضا فقد خلق الخمسة والعرض لا أنّه جعل الأربعة خمسة أو الجسم عرضا ، وبالجملة فمراتب الأعداد ممّا لا بدّ منها في نفس الأمر ، وكلّ منهما غير الآخر ، وكلّ منها في مرتبته يقتضي وجودا خاصّا لا يتداخل مع الآخر ، وكذلك سائر الماهيات من الحيوانات والنباتات ، فإنّ ماهيّة الإنسان على ما هي عليه غير ماهية الكلب على ما هي عليه ، فلو خلق الكلب إنسانا فقد خلق الإنسان لا أنّه جعل الكلب إنسانا ، فهو من فيض الشامل أفاض على مرتبة ما هو أهل لها ، ومنه يظهر القابليّة ، إذ القابليّة تابعة للموادّ ، وباختلاف الموادّ والماهيّات اختلفت القابليّات وبالجملة لا يمكن جعل ماهيّة الكلب إنسانا كما لا يمكن جعل ماهية الزوج فردا ، والأربعة خمسة ، وكذا قابليّتها لا لعدم شمول قدرة اللَّه ، بل لعدم مقدورية ذلك وامتناعه انتهى .
وفيه : أنّه مبنيّ على القول بالأعيان الثابتة الَّتي قلّ من سلم من القول بإثباتها للغفلة عن مفاسدها لا يكاد يمكن الجمع بين التوحيد وبين الالتزام بها ، فإنّه لو كان للأشياء ثبوت وتفرّد في أنفسها بحيث يمتاز بعضها من بعض لم تكن أعداما محضة ، إذ من البيّن أنّه لا تمايز في الأعدام ، فقوله رحمه اللَّه : إنّه تعالى خلق الذوات على ما هي عليها في علمه .
فيه أولا أنّ الهويّة الَّتي خلق عليها الأشياء إن كانت حادثة فقبل خلقها