ثم يقال بعد ذلك : انّها بقرة لا فارض ولا بكر ، وقد علمنا أنّ الهاء في قوله : انّه يقول كناية عنه تعالى ، لأنّه لم يتقدّم ما يجوز أن يكون كناية عنه إلاّ اسمه تعالى ، وكذا يجب أن يكون قوله انّها كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها وإلاّ فما الفرق بين الأمرين ؟ وكذلك الكلام في الكناية الثانية والثالثة سواء ، ولا خلاف بين المفسّرين انّ الكناية في الآية من أولها إلى آخرها كناية عن البقرة المأمور بها في الأوّل .
وقالت المعتزلة : إنّها كناية عن البقرة التي تعلّق التكليف المستقبل بها .
ولا خلاف بين المفسّرين أنّ جميع الصفات المذكورات للبقرة أعوز اجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى اجتماع بقرة لها هذه الصفات كلّها بملء جلدها ذهباً .
وروي أكثر من ذلك ، ولو كان الأمر على ما قاله المخالف لوجب أن لا يعتبروا فيما يبتاعونه إلاّ الصفات الأخيرة دون ما تقدّمها ، وتلغى الصفات المتقدّمة ، اجماعهم على أنّ الصفات كلّها معتبرة ، دليل على أنّ الله تعالى أخّر البيان .
فإن قيل : لم عنّفوا على تأخيرهم امتثال الأمر الأوّل مع أنّ المراد بالأمر الأوّل تأخر ؟ ولم قال : * ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) * ؟
قلنا : ما عنّفوا بتأخير امتثال الأمر الأوّل : وليس في الظاهر ما يدلّ عليه ، بل كان البيان يأتي شيئاً بعد شيء كما طلبوه من غير تعنيف ، فلا قول يدلّ على أنّهم بذلك عصاة .
فأمّا قوله في آخر القصة : * ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) * .
فإنّما يدلّ على أنّهم كادوا يفرّطون في آخر القصة ، وعند تكامل البيان ، ولا يدلّ على أنّهم فرطوا في أوّل القصة .
