أحدهما : كادوا لا يفعلون أصلاً لغلاء ثمنها ، لأنّه حكي عن ابن عباس ومحمد بن كعب أنّهم اشتروها بملء جلدها ذهباً من مال المقتول ، وقيل : بوزنها عشر مرات .
والثاني : ما قال عكرمة ووهب : كادوا ألاّ يفعلوا خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم ، قال عكرمة : ما كان ثمنها إلاّ ثلاثة دنانير .
قد استدلّ أصحابنا بهذه الآيات على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة .
فإن قالوا : إنّ الله أمرهم بذبح بقرة هذه الصفات كلّها لها ، ولم يبيّن ذلك في أوّل الخطاب حتى سألوا عنه وراجعوا فيه ، فبيّن حينئذٍ المراد لهم شيئاً بعد شيء ، وهذا يدلّ على جواز تأخير البيان .
فإن قيل : ولم زعمتم أنّ الصفات المذكورة في البقرة الأولى التي أمروا بذبحها ، وما الّذي تنكرون أنّهم أمروا بذبحيّ بقرة كانت ، فلما راجعوا تغيّرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة أخرى هي لا فارض ولا بكر ، فلما راجعوا تغيّرت المصلحة ، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها ، فلمّا راجعوا تغيّرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها ، وإنّما يصحّ لكم لو كانت الصفات المذكورة كلّها مرادة في البقرة الأولى .
قلنا : هذا باطل ، لأنّ الكناية في قوله : * ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ) * لا يجوز أن تكون كناية إلاّ عن البقرة التي تقدّم ذكرها وأمروا بذبحها ، لأنّه لم يجر في الكلام ما يجوز أن تكون هذه الكناية عنه إلاّ البقرة ، ويجري ذلك مجرى أن يقول واحد لغلامه : أعطني تفاحة ، فيقول الغلام : ما هي بيّنها ؟ فلا يصرف واحد من العقلاء هذه الكناية إلاّ إلى التفاحة المأمور بإعطائه إياها .
