أمنع منها ، بل ليس لها نظير إلا مدينة رندة بالأندلس ، فإنها تشبهها في وضعها والخندق المحيط بها والحافات المحدقة بها شبهاً كثيراً ، لكن هذه القسنطينة أعظم وأكبر وأعلى ، فإنها على جبل عظيم من حجر صلد ، قد شقَّ الله تعالى ذلك الجبل فصار فيه خندق عظيم يدور بالمدينة من ثلاثة جوانب ، ونهرها الكبير يدخل على ذلك الخندق ويدور بالمدينة فيسمع لجريانه في ذلك الخندق دوي عظيم هائل وصوت مفزع ، وقد عقد الأولون على هذا الجبل قنطرة عظيمة طبقات بعضها فوق بعض ، وعليها الدخول إلى باب المدينة ، وهي متصلة بالباب ، وقد بني على طرف القنطرة مما يلي باب المدينة بيت على أقباء يسميه أهل المدينة العبور يعنون الشعرى ، لأنه معلق في جوّ السماء ، فإذا كنت في وسط هذه القنطرة تعبر إلى الضفة الثانية تظن أنك تطير في الهواء ، وترى ماء النهر الكبير في قعر ذلك الخندق البعيد المهوى مثل الجدول الصغير ، وهذه المدينة من إحدى عجائب العالم ، وهي على نظر واسع كما قلناه ، ولها بساتين كثيرة الفواكه ، لكنها شديدة البرد والثلوج كثيرة الرياح لعلوها وارتفاعها ، وأقرب ما لها من مراسي البحر مرسى القل . قالوا : وهي على قطعة جبل منقطع مربع ، فيه بعض الاستدارة لا يوصل إليه من مكان إلا من جهة باب بغربيها ليس بكبير المنعة ، وهناك مقابر أهلها ، ومع المقابر بناء قديم من بناء الأول ، وبه قصر تهدم أكثره ، وهو دار ملعب من بناء الروم ويحيط بقسنطينة الوادي من جميع جهاتها كالعقد ، وليس بها من داخلها سور يعلو أكثر من نصف قامة ، ولها بابان : باب ميلة من المغرب ، وباب القنطرة في الشرق ، والقنطرة من أعجب البنيان لأن علوها يزيد على مائة ذراع ، وهي من بناء الروم ، قسيّ عليها قسي ، عددها في سعة الوادي خمس ، والماء يدخل على ثلاث منها مما يلي جانب المغرب ، وهي كما قلناه قوس على قوس ، فالقوس الأولى يجري فيها الماء أسفل الوادي ، والقوس الأخرى فوقها وعلى ظَهرها المشي والجواز إلى البر الثاني ، وباقي القوسين اللتين من جهة المدينة مفردتان على الجبل ، وبين القوس والقوس أرجل تدفع مضرة الماء ومصادمته عند حملة سيوله ، وعلى رقاب الأرجل قسي فارغة صغار ربما زاد الماء في بعض الأوقات فعلا الأرجل ومرّ في تلك الفرجات ، وهي من أعجب ما رئي من البناء وليس في المدينة كلها دار كبيرة ولا صغيرة إلا وعتبة بابها حجر واحد ، وكذلك عضادات جميع الأبواب ، وبناؤها بالتراب وأرضها حجر صلد ، وفي كل دار مطمورتان وثلاث وأربع نقراً في الحجر تبقى الحنطة فيها لبردها واعتدال هوائها ، وواديها يأتي من جهة الجنوب ليحيط بها من غربيها ويمر شرقاً مع دائر المدينة ويستدير في جهة الشمال إلى أن يصب في البحر في غربي وادي سهر . والقسنطيية من أحصن بلاد الدنيا ، وهي مطلة على فحوص ومزارع والحنطة والشعير ممتدة في جميع جهاتها ، ولها في داخل المدينة ومع سورها مسقى يستقون منه ويتصرفون منه في أوقات حصارها متى طرقها عدوّ ، وبين قسنطينة وبجاية ستة أيام ، أربعة منها إلى جيجل ، ومن جيجل إلى بجاية خمسون ميلاً . القسطنطينية : كانت رومة في القديم دار مملكة الروم نزلها من ملوكهم تسعة وعشرون ملكاً ، ثمِ ملك بها قسطنطين الأكبر ثم انتقل إلى بزنطية وبنى عليها سوراً وسماها القسطنطينية ، وقد كان اسمها طوانة ثم نسبت إلى قسطنطين ، وبينها وبين عمورية ستون ميلاً في قرى وعمارات . وخليجها المشهور بها هو الداخل من بحر الشام الواقع في البحيرة التي تتصل بالقسطنطينية ، وإلى ذلك الخليج يصل التجار المختلفون من العراق والشام وغيرهما إلى القسطنطينية ويعبرونه في السفن إلى العدوة الثانية ، وهو الذي عبر فيه رسول معاوية بن أبي سفيان حين وجهه للاحتيال على البطريق الذي لطم وجه الرجل المسلم في الحكاية المشهورة . ومدينة القسطنطينية ثلاث نواحي : ناحيتان منها في البحر الأعظم مما يلي القبلة والمشرق والمغرب ، والناحية الثالثة