بعث إلى سرخس عبد اللّه بن خازم ففتحها . وبطوس قبر الرشيد أمير المؤمنين وفيها توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين . وكان الرشيد توجّه إلى خُراسان وبه علة هوّنها عليه الأطباء ، فلما صار إلى طوس اشتدت به وزادت ، واستراب بأطبائه ، فبعث إلى متطبب فارسي يقال له الأسقف ، فأشخصه إليه ، وأمر بقوارير فيها أبوال مختلفة فعرضت عليه ، فقال فيها حتى انتهى إلى قارورة الرشيد فقال : قولوا لصاحب هذا الماء فليدع الحمية وليوص ، فإنه لا يقوم من مرضه ، فبكى الرشيد بكاء شديداً وتململ على فراشه وجعل يردد هذين البيتين : إن الطبيب بطبَهِ ودوائِهِ * لا يستطيع دفاع محذور أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي * قد كان يبرئ مثله فيما مضى وضعف عندما سمع من الطبيب ضعفاً زائداً ، وأرجف الناس بموته فلما بلغه ذلك دعا بحمار ليركبه ، فلما صار عليه سقطت فخذاه فلم يقدر على الثبات على السرج ، فقال : أنزلوني ، صدق المرجفون ، ثم دعا بأكفانه فنشرت بين يديه ، فاختار منها ما رضيه وحفر له قبر فلما اطلع فيه قال : " مَا أَغْنىَ عنّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَني سُلْطانِيَهْ " . وذكر الفضل بن الربيع أن الرشيد رأى بالرافقة سنة اثنتين وتسعين ومائة رؤيا أَفزعته فأصبح واجماً بذلك ، لا يجسر أحد على سؤاله وكان بختيشوع طبيبه جسوراً عليه ، وكان أول من يدخله عليه فسأله عما أحدث في ليلته ، فسألناه أن يكلمه ، فابتدأه وقال : يا أمير المؤمنين قد وجم أهل الدار ولا يدرون ما الخبر ، فهل حدث شيء ؟ قال : أعظمه ، ويحك يا بختيشوع ، إني رأيت في منامي كأن خادماً جاءني حاسراً عن ذراعيه وفي كمه تراب ، والله لو رأيت الخادم أو الكف أو التراب في ألفٍ من أجناسه لعرفت كلاً منها ، فجعل يقول لي : هذه تربتك ، فأفزعني ذلك ، وحق لي الفزعَ ، فقال له : وما في هذا يا أمير المؤمنين ، وللرؤيا شروط ، ولا بد للإنسان من التراب ، ولكن أنت إن شاء الله تعالى بعد العمر الطويل والأمد الواسع ، وما زال يسليه حتى طابت نفسه وسلا ودعا بالجلساء والمغنين ، ثم خرج إلى خُراسان في سنة ثلاث وتسعين بعدها ، وقد طوى بغداد ، وصيرها منزلاً ووافى إلى طوس وقد زادت علته ، فأقام بها وقال للخدم ليجئني أحدكم بقبضة من تراب هذا البستان ، فجاء واحد منهم بتراب منه في كفه ، فأدناه إليه ، وقد حسر عنه ذراعيه ، فلما رآه قال : يا بختيشوعَ ، أتذكر رؤياي بالرافقة ؟ هذا والله ذلك الخادم ، وهذه الكف ، وهذا التراب ، وقد حضر الموت ، فغالطه بختيشوع وقال : إنما أراك هذا ما وقر في نفسك ، وأنت مع العلة إلى الفكر في غير هذا أحوج ، فمات بعد أيام ودُفن في ذلك البستان . وقال الفضل جيء إلى الرشيد بأخي رافع وبابن عم له مأسورين ، وهو لما به فتحامل في الجلوس لعذابهما وهو لا يطيق القعود وقد خرق له في السرير خرق ينجو منه ، وتحت فراشه جاورس ، وقد قعد الخدم خلف السرير يمسكون أطراف جنبيه لئلا يسقط ، ولولا مكانهم ما ثبت جالساً ، فأقيم الرجلان بين يديه فقال : أظننتم يا آل رافع أنكم لو كنتم بعدد نجوم السماء وحصى الأرض فتّموني ؟ ! بل اصطلمكم بيميني وشمالي ، فجعلا يعتذران ويقولان : ما نحن ورافع ؟ ! وإنما نحن قوم غزاة قد انقطعنا إلى الله تعالى ذكره ، ما أكلنا له مالاً قط ، ولا نحن صحبناه ، ولا كنا في جملته ، يعلم ذلك الناس . وأغلظ لهما وطال الخطاب ، فأقبل أحدهما على صاحبه فقال : كم تعتذر إلى هذا الظالم والظلم هواه ، ولا يملك لك إلا ما يملك لنفسه ، فلما سمعهما غضب واستشاط وقال : ليجزر الكلبان الساعة ، فصيرا إلى ناحية وبطحا وشدا ووضعت السواطر عليهما فقطعا آراباً ، وجزع الناس وقد تناهى ضعف الرشيد بصياحه على الرجلين ، وجرد فأغمي عليه بعقب ذلك وكأنه كان ذبالة طفئت ، ولحق بهما من يومه فكان شأنه عجباً ، وكان إذا اشتدّ به وجعه يقول : صبراً لأمر الله ، وينشد : وإني لمن قوم كرام يزيدهم * رجاء وصبراً شدة الحدثان