ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه فوصفه بالعقل وقال : انتهت خيله إلى الشماسية . قال : وكان فرات جلولاء في يد المعتصم ، وهو أمير ، فكتبت إليه عنه : لعبد الله مهدي أمير المؤمنين من أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين يسأله الكف عن ضياعه ويبذل له عليها شيئاً من المال ، ووجه بالكتاب معي ، فصرت إليه وهو بجلواباذ عليه دراعة وسيف وعمامة هارونية ، فقلت له : قد أتيتك بكتاب ما أتاك مثله ، أعني مخاطبة أبي إسحاق إياه بالخلافة ، قال : فدعا بكتب كثيرة من الهاشميين وغيرهم يخاطبونه بالخلافة ، قال : فكتب لي بما أردت وأعطاني خاتمه فختمت به الكتاب ، فكان أول خاتم باطل وقع في يدي ثم ردفه خاتم إبراهيم بن المهدي . قال : ومرت بنا امرأة نصرانية فقال لي مهدي : هذه أمي وليس يحل لي أن أكرهها على الإسلام . قال : وذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسوء ، فقال : هل لكم فيما هو خير من هذا كله ؟ نكله إلى الله عز وجل . وقال يحيى بن أكثم : كنت أساير المأمون فوق باب الشماسية وهو على بغل ، فخرج من زرع كان بالقرب من الطريق رجل معه قصة ، فنفر البغل ورمى بالمأمون ، فقال المأمون : والله لأقتلنك ، فلما استوى على بغلته قال له الرجل : يا أمير المؤمنين لأن تلقى الله حانثاً خير لك من أن تلقاه قاتلاً ، قال : صدقت والله ، وقضى حاجته ووقع في قصته ما أراد . وقال أحمد بن أبي دواد : كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله ، فخرج المعتصم يوماً إلى الشماسية في حراقة يشرب ووجه في طلبي فصرت إليه ، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني وشغلني عن كل شيء ، فسقط سوطي من يدي ، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه فقال لي : قد والله سقط مني ، قلت له : فأي شيء كان سبب سقوطه ؟ قال : صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سوطي من يدي ، فإذا قصته قصتي ، قال : وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفز به الناس منه ويغلب على عقولهم ، وأناظر المعتصم فيه ، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر ، فضحك وقال : هذا عمي كان يغني : إن هذا الطويل من آل حفص * نشر المجد بعد ما كان ماتا فإن كنت تبت مما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده ، ففعلت وفعل ، وبلغ الطرب مني أكثر مما كان يبلغني عن غيري فأنكره ، ورجعت عن رأيي فيه منذ ذلك اليوم . شنترين : بالأندلس مدينة معدودة في كور باجة ، وهي مدينة على جبل عال كثير العلو جداً ، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة ولا سور لها ، وبأسفلها ربض على طول النهر ، وشرب أهلها من العيون ومن ماء النهر ، ولها بساتين كثيرة وفواكه ومباقل ، وبينها وبين بطليوس أربع مراحل . وهي من أكرم الأرضين ، ونهرها يفيض على بطحائها كفيض نيل مصر فيزدرع أهلها على ثراه عند انقطاع الزريعة في البلاد وذهاب أوانها فلا يقصر عن نمائه الطيب ولا يتأخر إناه وإدراكه . ومن أقاليمها صقلب ، وهي أطيب بقاع الأرض يرفع في أرضه عند توسط الرياع للحبة مائة ، وعند كماله للحبة مائتان . ولشنترين جزائر في البحر مسكونة . وكانت جباية شنترين ألفين وتسعمائة دينار ، وأحوازها متصلة بأحواز باجة . وكان يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب اجتاز عليها في حركته الأندلسية بعسكره وهو أربعون ألفاً من أنجاد العرب الفرسان ، ومن الموحدين والجنود والمطوعة وفرسان الأندلس وأجنادها ما ينيف على مائة ألف فارس ، وبرز أسطوله على الأشبونة وحاصرها عشرين يوماً ونزل على أعظم قواعد ابن الرنق عدو المغرب ، وكان مؤذياً للمسلمين من قاعدته ، وهي شنترين هذه ، فبرز عليها في أمم لا تحصى ، وهناك عرض له المرض الذي توفي فيه ، أقام يرحل به على مطية مضطجعاً على فراشه وضعفه يتزايد إلى أن تفقد في بعض أميال فوجد ميتاً ، وذلك في سنة ثمانين وخمسمائة ، فتقدم