ولَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ ، وانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ ، وسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ ، وتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ ، فَقَالُوا : كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ ، وخَوَتِ الأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ ، ولَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى ، وتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ ، وتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ ، وتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا ، وتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا ، وطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا ولَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً ، ولَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ ، وقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ ، واكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ ، وتَقَطَّعَتِ الأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا ، وهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا ، وعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا ، وسَهَّلَ طُرُقَ الآفَةِ إِلَيْهَا ، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ ، ولَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ ، وأَقْذَاءَ عُيُونٍ ، لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ ، وغَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي . فَكَمْ أَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ ، وأَنِيقِ لَوْنٍ ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ ، ورَبِيبَ شَرَفٍ يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ ، ويَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ، ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ ،