وأقول الأولى حملهما على كلّ ما يمنع من توجه خطاب التكليف بالأدب والتعليم لأنّ المقصود بيان من يجوز له التقليد ومن لا يجوز . وأهل الضرر في العقل النظري وأهل الزمانة في العقل العملي قد لا يكونون من أهل التقليد أيضاً ، ولا يشتبه حالهم على أحد فلا يكون التقسيم كثير فائدة . وههنا سؤال مشهور وهو أنّه لِمَ لم يخلقهم سواء ؟ وما الباعث على هذا التفاوت وما المصلحة فيه ؟ فأجاب عنه الأشاعرة بأنّه فاعل مختار يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون وأجاب بعض الحكماء بأنّ هذا التفاوت للتفاوت في القابليّة ، والقابليّة شرط في الإفاضة وهذا إلى الإيجاب أقرب ومن ظاهر الشريعة أبعد . وأجاب بعض آخر منهم بأنّه لمصلحة نظام الكلّ الّذي لا نظام أكمل منه ; لأنّه لو خلق كلّ فرد على الوجه الأكمل بالنسبة إليه وحده لفات نظام الكلّ من حيث هو كلّ بل فات نظام كلّ فرد أيضاً ، مثلا لو جعل كلّ فرد فاضلا عاملا لما انتظم المصالح الجزئية التي لا بدّ في مزوالتها خسّة . والحقّ أنّ لهذا التفاوت بواعث ومصالح جمّة والعقول الناقصة قاصرة عن معرفة تفاصيلها . و قد سأل المفضل بن عمر في توحيده عن الصّادق ( عليه السلام ) حين ذكر ( عليه السلام ) منافع الإنسان من العقل والقوى الظاهرة والباطنة وغير ذلك من الأعضاء وذكر مضارِّ عدمها ، فقال المفضل : قلت فلم صار بعض النّاس يفقد شيئاً من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي ؟ قال ( عليه السلام ) : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه ، كما قد يؤدّب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوّب من تدبيرهم ، ثمّ إنّ الذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت أن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينلهم منها حتّى أنّهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردّوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب ، ( فخصّ أهل الصحّة السلامة ) القابلة عقولهم للأدب والتعليم . وخصّ بالخاء المعجمة والصّاد المهملة ( بالأمر والنهي ) في المعارف الالهيّة والفروع الشرعيّة ، وطلب منهم معرفة ذلك بالاستدلال على الوجه المعتبر وتعليمهم لغيرهم كما يشعر به قوله تعالى ( فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) ( بعد ما أكمل لهم آلة التكليف ) يعني القوى الباطنة والظاهرة مع صحّتها عن الآفات وخلوِّها عن الموانع ( ووضع التكليف عن أهل الضرر والزمانة إذ خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم ) في المعارف اليقينيّة والقوانين الشرعيّة بالنظر والاستدلال . ولبعض ههنا كلام لا يخلو من مناقشة لأنّه فسّر آلة التكليف بالعقل الّذي لم يعرضه الجنون والإغماء وشبههما وفسّر الضرر والزمانة بالاختلال في العقل وهذا صريح بقرينة المقابلة في أن أوضع التكليف عن أهلهما عنده لفقد العقل بالجنون ونحوه ، ثمَّ خصّ الأدب والتعليم بالمعارف الإلهية