لكنه رعاه الله بسعة خياله وقوة بيانه ووفور أدبه ، شاء البروز بهذا الفن ، فجاء يخرج لنا التاريخ صوراً رائعة هي بالخيال أشبه منها بالحقيقة ! وهذا شئ ، والتمحيص شئ . ذكر في صحفة 260 ، تحريش أبي عامر الفاسق بين الجيشين ، ثم قال : ( هنالك صاح حمزة بن عبد المطلب صيحة القتال يوم أحد : أمت أمت ، واندفع إلى قلب جيش قريش ، فلقيه طلحة بن أبي طلحة حامل لواء أهل مكة ، فضربه حمزة بالسيف على يده اليمنى . . . ) إلى أن قال : ( واندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبي ( ص ) وعلى رأسه عصابة الموت ، فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله ، حتى شق صفوف المشركين ) . لم يذكر الدكتور من أبطال هذه الغزوة غير حمزة وأبي دجانة ! ثم ذكر بعض هؤلاء في آخر الوقعة ! فعلَ ذلك ليدلل على أن هذين هما بطلا الغزوة ، وأن غيرهما ليس في مرتبتهما ليذكر معهما ، قاصداً الحط من قدر علي عليه السلام وبطولته ! وقد ذكره في آخر الوقعة ، وهذا فنة الذي يجيده في الإغفال غاية الإجادة ! وليته قنع بهذا المقدار فلم ينسب ما عمله علي عليه السلام يوم أحد إلى عمه حمزة ! وحمزة أسد الله وأسد رسوله في غنى عن عمل غيره . . والدكتور وإن كان في تصويره وتنميقه مبتدعاً وله أن يقول ما يشاء ، لكن عليه في نقل الحوادث أن يكون متبعاً لأئمة السير وحفظة التاريخ ، أداءً لحق الأمانة وعملاً بقانون النزاهة ، فإن قيمة المؤرخ تحرير الحقيقة في نقد الحوادث ، أما التأنق في اللفظ والتصوير ، فهو من عوارض التاريخ ومحسناته .