وإن لم يكن له صلى الله عليه وسلم دار هناك . وبدا الموقف صعبا : كلما مر عليه الصلاة والسلام بحي من أحياء الأنصار بادر إليه الرجال يسألونه شرف النزول فيهم ، وهو عليه الصلاة والسلام يتحرج من إيثار حي على آخر أو دار على دار ، فيقول معتذرا شاكرا : ( خلوا سبيل ناقتي ) . حتى إذا مر بحي بني عدي بن النجار ، توقعوا أن يكون لهم من خئولتهم لأبيه عبد الله بن عبد المطلب ، حق الحظوة بالشرف الذي رنت إليه كل بيوت الأنصار . هتفوا : ( يا رسول الله ، هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة ) . وتلبث عليه الصلاة والسلام برهة يملا عينيه من هذا الحي ، ويسترجع ذكريات رحلته الأولى إلى يثرب ، حين جاءت به أمه ( آمنة بنت وهب ) من مكة وهو في السادسة من عمره ، لتزيره قبر أبيه الثاوي هناك . وتخطى بصره الجموع الزاخرة التي حفت بركابه ، وتعلق بطيف أمه ، ماثلا شاخصا لا يغيب . ومع الذكريات ، طوى سبعة وأربعين عاما من عمره ، ليجد نفسه غلاما غض الصبا ، يعود مع أمه في رحلة الإياب إلى أم القرى ، ومعهما ( بركة أم أيمن ) فما قطعوا بعض مراحل الطريق حتى وعكت أمه ، ثم أسلمت الروح بين يديه في بقعة موحشة من الفلاة ، بين يثرب ومكة .