نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 77
سببا في مجراها وواسطة لبقائها وقبسا من ضيائها وناموسا من نواميسها . وأنها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس . فعليهم ألا يحاولوا غلها وتقييدها وإلا أسنت وانقلبت إلى فناء . فالحياة جميلة ، كريمة ، حرة ، خيرة كالوجود أبيها ، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين . وهي متجددة أبدا ، متطورة أبدا ، لا ترضى عن تجددها وتطورها بديلا وهما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر وبقاء أصلح . وملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة ونواميسها وهي أعظم موجودات الوجود الخير ، مكنت في نفسه الإيمان بثورية الحياة المتطلعة أبدا إلى الأمام ، المتحركة أبدا في اتجاه الخير الأكثر . وثورية الحياة أصل تحركها وسبب تطورها من حسن إلى أحسن . ولهذا كانت الحياة حرة غير مقيدة إلا بشروط وجودها . وثورية الحياة أصل تحرك المجتمع الإنساني وسبب تطوره . ولولا هذه الخاصة لكانت الحياة شيئا من الموت والأحياء أشياء من الجماد . آمن ابن أبي طالب بثورية الحياة أيمانا أشبه بالمعرفة ، أو قل هو المعرفة . فترتب عليه إيمان عظيم بأن الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم وذلك بأن يماشوا قوانين الحياة . ويستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم وذلك بأن يخضعوا لعبقرية الحياة . وقد سبق أن قلنا في حديث مضى إن ثورية الحياة ألصق مزايا الحياة بها وأعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة . وهي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطور المحتوم ، وأن ينبهوا الخواطر إليه ، وأن يستخدموا الدليل والبرهان في زجر المحافظين عن كل تصرف غبي يتوهم أصحابه أنهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطورة بثورتها . بهذه الثقة وبهذا الإيمان خاطب ابن أبي طالب الإنسان بقوله : ( فإنك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ، ويتحير فيه رأيك ، ويضل فيه بصرك ، ثم تبصره بعد ذلك ! ) ففي هذا القول اعتراف بأن الحياة متطورة ، وأن التعلم إنما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها ، على ما قلنا سابقا . وفيه إيمان بالقابلية الإنسانية العظيمة للتقدم ، أو قل للخير . وما دعوته الحارة إلى المعرفة التي تكشف كل
77
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 77