نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 76
وإذا كان له في ذم أهل الخيانة والغدر والظلم قول كثير ، فما ذاك إلا لأنه يعترف ، ضمنا ، أن الإنسان ممكنا إصلاحه ولو طال على ذلك الزمن . فإن المتفائل وحده هو الذي يزجر المسئ كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق والمسلك . ولو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل ، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرها عليه المسيئون ، ولما صبر على ما يكره ! وهو إن قال في الدنيا وأهلها : ( فإنما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية ، يهر بعضها بعضا ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها ) فإنما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين وفجر الفاجرين ما آلمه وآذاه . فوبخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر ولا يغدر ولا يكون كلبا عاويا ولا سبعا ضاريا ولا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا ! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري والعزيز الظالم والكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن والروح ، بل إيثارا منه للحياة على الموت ، وتفاؤلا بحسن النجاة ! إذن فالإمام علي ، وهو الذي يحترم الحياة : أعظم ما خلق الله ، ويحترم الناس الأحياء أجمل نماذج هذه الحياة ، عظيم الثقة بالخير الإنساني عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرا كما يجب أن يكون ! ولولا هذه الثقة وهذا التفاؤل لما كان من أمره مع الناس ما كان ، ولما قال : ( لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا ! ) ثم لما توجه إلى الضمير الفردي الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم وحرارة العاطفة إلى سمو الغاية ونبل المقاصد . هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامة ، والعاطفة الإنسانية ، وتركيز العمل النافع على أسس الإيجابية في العقل والضمير . واستنادا إلى هذه الثقة بالضمير الإنساني ، وتحصينا للعمل الخير الشريف ، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم وعيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا : ( اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم وعيونا من جوارحكم وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ! ) واستنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله ، وإلى عظمة الحياة والأحياء ، يخاطب علي ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أن الحياة حرة لا تطيق من القيود إلا ما كان
76
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 76