نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 52
أو إذا كان المنهج العام يستلزم ضبط التفاصيل سواء ما خفي منها وما ظهر . فإن علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كل مذهب ، ثم تتماسك مذاهبه جميعا في وحدة فكرية رائعة ، لم يقل هذا القول ( المعلوم الذي يعرفه الناس كل الناس ) ، ولم يقل بمعناه قولا أروع وهو : ( نفس المرء خطاه إلى أجله ) ، إلا ليعود ويبني على ما قاله بناء مفصلا في إثبات نظرية تكافؤ الوجود . فالذي قال ( لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ( ونفس المرء خطاه إلى أجله ) ، إنما قال ذلك ليعود إلى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس وأخفى عن ملاحظتهم ، ولكنها تجري من القولين السابقين : ( ولا ينال الإنسان نعمة إلا بفراق أخرى ! ) وأراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة ، والقدرة على الكشف ، وصراحة الفكر وجلاء البيان . وضبطا لمضمون هذه العبارة في صور وأشكال تختلف مظهرا وتتحد معنى وجوهرا ، يقول علي : ( كم من أكلة منعت أكلات ) و ( من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد ) و ( رب بعيد هو أقرب من قريب ) و ( المودة قرابة مستفادة ) و ( من حمل نفسه ما لا يطيق عجز ) و ( لن يضيع أجر من أحسن عملا ) وما ( كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك ) . فإن في هذه العبارات ، وفي عشرات غيرها ، إيجازا واضحا لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه علي بن أبي طالب . فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة ، تدور في مداها ومأخذها القصي على محور واحد من تعادلية الكون ، فلا نقص هنا إلا وتعدله زيادة هناك . والعكس بالعكس . أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة وعمق . وعاشها ، وأعلن عنها في كل فصل من حياته أو قول من قوله ، سواء أكان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر . وهو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية إلا ليدرك وجها آخر يعكسه على شكل خاص ، أو قل ينبثق عنه انبثاقا ، وهو ما نحن بصدده من الكلام على أن الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتعاقب أو تثيب ، وليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها . رأى علي أن شيئا واحدا من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثا ، بل إن لوجوده غاية
52
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 52