نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 53
وهدفا . ورأى أن لكل من الكائنات وظيفة يقوم بها ، وأن على كل جارحة من جوارح الإنسان فريضة يحتج بها الكون العادل عليه ، ويسأله عنها ، ويحاسبه عليها . وبناء على هذا الواقع ، تكون أشياء الوجود متساوية بحكم وجودها . أما الصغيرة والكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس . يقول علي : ( ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة ) وإنما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون ل ( الصغيرة ) ، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب ، لكي يطمئن إلى حدوث عملية التسوية بينهما في الأذهان والقلوب . أما إذا احتج الكون على الإنسان بما فرضه على جوارحه ، وسأله عنه ، وحاسبه على الصغيرة والكبيرة ، وجازاه بما عمل خيرا كان أو شرا ، فليس من الضروري في ملاحظة علي وفي نهجه أن تتم عملية الاحتجاج والمحاسبة والمجازاة هذه خارج نطاق الإنسان نفسه ، وإن هذه العملية المركبة ، الواحدة على ما فيها من تركيب ، لتتم أبدا - كما يلحظ علي - في حدود الكائن أيا كان . وهكذا تتم في ما يتعلق بالانسان وهو أحد الكائنات . يقول علي : ( إن عليكم رصدا من أنفسكم وعيونا من جوارحكم ) . والرصد الرقيب . وهذا الرقيب لا يألو جهدا في أن يرى ويسجل ويعاقب أو يثيب . وفي لحظات فذة من تألق العقل المكتشف والفكر النافذ ، تبدو لعيني ابن أبي طالب ألوان ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية ، لا يسعك إزاءها إلا أن تعجب بهذا العقل وهذا الفكر . أفلا ينطق ابن أبي طالب بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعة يقرر هذه الحقيقة : ( من أساء خلقه عذب نفسه ! ) ثم ، ألا ينطق بهذين اللسانين معا إذ يقول : ( يكاد المريب يقول : ( خذوني ) وإذ يقول أيضا : ( فأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقك رغب فإنك تعتاض بما ابتذلت من نفسك ! ) . ومثل هذه الآيات كثير كثير . ومنها هذه الروائع : ( موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل ) و ( لا مروءة لكذوب ولا راحة مع حسد ، ولا سؤدد مع انتقام ، ولا صواب مع ترك المشورة ) . و ( إذا كانت في رجل خلة رائقة فانتظروا أخواتها ! ) .
53
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 53