نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 14
الشهور في السنة ، وأسرع السنين في العمر ! ) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل ، وتشعلها العاطفة ، ويجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئن ، قائلا : ( وإنما الأيام بينكم وبينهم بوأك ونوائح عليكم ) . ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي : ( ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا ، وبالسمع صمما ، وبالحركات سكونا . فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ( 1 ) ! جيران لا يتآنسون ، وأحباء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التعارف ، وانقطعت منهم أسباب الإخاء . فكلهم وحيد وهم جميع ، وبجانب الهجر وهم أخلاء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، ولا لنهار مساء . أي الجديدين ( 2 ) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ( 3 ) ) ثم يقول هذا القول الرهيب : ( لا يعرفون من أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم ، ولا يجيبون من دعاهم ! ) فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هول الموت ووحشة القبر وصفة سكانه في قوله : ( جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون ! ) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي : ( أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ! ) ومثل هذه الروائع في ( النهج ) كثير . هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة ، مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة . فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخية حارة . وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمده العاطفة بالدف ء . وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في
1 - ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل ، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات ، أي النوم . 2 - الجديدان : الليل والنهار . 3 - سرمد : أبدي .
14
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 14