نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 13
أو في مثل هذا التشبيه الساحر : ( فتن كقطع الليل المظلم ) . أو هذه الصورة المتحركة : ( وأنما أنا كقطب الرحى : تدور علي وأنا بمكاني ! ) أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور : ( ويل لسكككم العامرة ، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة ! ) ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل . والتمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة . وإن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال ، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر ، فهو وإن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشى أن يغتاله . ثم انظر بعد ذلك إلى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول ، ( صاحب السلطان كراكب الأسد : يغبط بموقعه ، وهو أعلم بموضعه ) وإن شئت مثلا آخر فاستمع إليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه ، فيقول ، ( إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه ! ) والردف هو الراكب خلف الراكب . ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب : ( إياك ومصادقة الكذاب . فإنه كالسراب : يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب ! ) أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن ، فهي إن صحت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا . فما أهول الموت وما أبشع وجهه . وما أورع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقعه . فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا ، ومن الخيال الخصب نصيبا أوفر . فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوربا ساعة صوروا الموت وهوله لونا ونغما وشعرا . فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه ، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قاتم ونغم حزين : ( فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، فيا له من بيت وحدة ، ومنزل وحشة ، ومفرد غربة ! ) ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون ، بعبارات متقطعة متلاحقة وكأن فيها دوي طبول تنذر تقول ( ما أسرع الساعات في اليوم ، وأسرع الأيام في الشهر ، وأسرع
13
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 13