نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 10
يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس ، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر . أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه ، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا ، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض . فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه ( دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ) . ولا عجب في ذلك ، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهل البلاغة . فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو ، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله ، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة . أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة ، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعا . أما الذكاء ، الذكاء المفرط ، فتلقى له في كل عبارة من ( نهج البلاغة ) عملا عظيما . وهو ذكاء حي ، قادر ، واسع ، عميق ، لا تفوته أغوار . إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب ولا يظلم منه كثير أو قليل ، وغاص عليه عمقا ، وقلبه تقليبا وعركه عركا ، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب : ما قرب منها أشد القرب ، وما بعد أقصي البعد . ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنى اتجهت . وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلة لما بعدها . ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه . بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه . وهو لاتساع مداه ، لا يستخدم لفظا إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل ، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقا وراء ها آفاق . فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل والنظر يكشف لك قوله : ( الناس أعداء ما جهلوا ) أو قوله : ( قيمة كل امرئ ما يحسنه ) . أو الفجور دار حصن ذليل ) .
10
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 10