وجعل يأخذ في ترجيح الرواة وتغليط بعضهم ، وليس الأمر كذلك ، بل كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين . الأولى : في حال الطفولية لينقى قلبه من مغمز الشيطان ، وليطهر ويقدس من كل خلق ذميم ، حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال ، وحتى لا يكون في قلبه شيء إلا التوحيد ؛ ولذلك قال : فوليا عني ، يعني : الملكين ، وكأني أعاين الأمر معاينةً . والثانية : في حال الاكتهال ، وبعدما نبئ ، وعندما أراد الله أن يرفعه إلى الحضرة المقدسة التي لا يصعد إليها إلا مقدس ، وعرج به هنالك لتفرض عليه الصلاة ، وليصلي بملائكة السماوات ، ومن شأن الصلاة : الطهور ، فقدس ظاهراً وباطناً ، وغسل بماء زمزم . وفي المرة الأولى بالثلج لما يشعر الثلج من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد ، وكذلك هناك حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به وبوحدانية ربه . وأما في الثانية ، فقد كان موقناً منبئاً ، فإنما ظهر لمعنى آخر ، وهو ما ذكرناه من دخول حضرة القدس والصلاة فيها ، ولقاء الملك القدوس ، فغسله روح القدس بماء زمزم التي هي هزمة روح القدس ، وهمزة عقبه لأبيه إسماعيل عليه السلام وجئ بطست ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغ في قلبه ، وقد كان مؤمناً ، ولكن الله تعالى قال : « ليَزْدادوا إيماناً مع إيمانهم » الفتح وقال : « ويَزْدَادَ الذين آمنوا إيماناً » المدثر . فإن قيل : وكيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب ، والإيمان عرض ، والأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به ، ولا يجوز فيه الانتقال ، لأن الانتقال من صفة الأجسام ، لا من صفة الأعراض ؟ قلنا : إنما عبر عما كان في الطست بالحكمة والإيمان ، كما عبر عن اللبن الذي شربه ، وأعطي فضله عمر رضي الله عنه بالعلم ، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه حكمةً وإيماناً ، ولعل الذي كان في الطست كان ثلجاً وبرداً كما ذكر في الحديث الأول فعبر عنه في المرة الثانية بما يؤول إليه ، وعبر عنه في المرة الأولى بصورته التي رآها ، لأنه في المرة الأولى كان طفلاً ، فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجاً ، حتى عرف تأويله بعد . وفي المرة الثانية كان نبيئاً ، فلما رأى طست الذهب مملوءاً ثلجاً علم التأويل لحينه واعتقده في ذلك المقام حكمةً وإيماناً ، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين . مناسبة طست الذهب للمعنى المقصود في الحالتين : وكان الذهب في الحالتين جميعاً مناسباً للمعنى الذي قصد به . فإن نظرت إلى لفظ الذهب ، فمطابق للإذهاب ، فإن الله عز وجل أراد أن يذهب عنه الرجس ، ويطهره تطهيراً ، وإن نظرت إلى معنى الذهب وأوصافه وجدته أنقى شيء وأصفاه ، يقال في المثل : أنقى من الذهب . وقالت بريرة في عائشة رضي الله عنها ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر . وقال حذيفة في صلة بن أشيم رضي الله عنهما : إنما قلبه من ذهب ، وقال جرير بن حازم في الخليل بن أحمد : إنه لرجل من ذهب ،