وقد أجود وما مالي بذي فنعٍ * وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق وقوله : بسام العشيات : يعني : أنه يضحك للأضياف ، ويبسم عند لقائهم كما قال الآخر ، وهو حاتم الطائي : أُضاحك ضيفي قبل إنزال رحله * ويخصب عندي ، والمحلّ جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى * ولكنما وجه الكريم خصيب حديث زمزم وكانت زمزم كما تقدم سقيا إسماعيل ، عليه السلام ، فجرها له روح القدس بعقبه ، وفي تفجيره إياها بالعقب دون أن يفجرها باليد أو غيره : إشارة إلى أنها لعقبه وراثةً ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، كما قال سبحانه : « وَجَعَلَها كلِمَةً باقيةً في عَقِبِه » الزخرف . أي : في أمة محمد عليه السلام ثم إن زمزم لما أحدثت جرهم في الحرم ، واستخفوا بالمناسك والحرم ، وبغى بعضهم على بعض واجترم ، تغور ماء زمزم واكتتم ، فلما أخرج الله جرهم من مكة بالأسباب التي تقدم ذكرها عمد الحرث بن مضاض الأصغر إلى ما كان عنده من مال الكعبة ، وفيه غزالان من ذهب وأسياف قلعية كان ساسان ملك الفرس قد أهداها إلى الكعبة ، وقيل : سابور ، وقد قدمنا أن الأوائل من ملوك الفرس كانت تحجها إلى عهد ساسان ، أو سابور ، فلما علم ابن مضاض أنه مخرج منها ، جاء تحت جنح الليل حتى دفن ذلك في زمزم ، وعفى عليها ، ولم تزل دارسة عافياً أثرها ، حتى آن مولد المبارك الذي كان يستسقى بوجهه غيث السماء وتتفجر من بنانه ينابيع الماء ، صاحب الكوثر والحوض الرواء ، فلما آن ظهوره أذن لله تعالى لسقيا أبيه أن تظهر ، ولما اندفن من مائها أن تجتهر ، فكان صلى الله عليه وسلم قد سقت الناس بركته قبل أن يولد وسقوا بدعوته ، وهو طفل حين أجدبت البلد ، وذلك حين خرج به جده مستسقياً لقريش ، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله وسقيت الخليقة كلها غيوث السماء في حياته الفينة بعد الفينة ، والمرة بعد المرة ، وتارة بدعائه ، وتارة من بنانه ، وتارةً بإلقاء سهمه ، ثم بعد موته عليه السلام استشفع عمر بعمه رضي الله عنهما عام الرمادة . وأقسم عليه به وبنبيه ، فلم يبرح ، حتى قلصوا لمازر ، واعتلقوا الحذاء ، وخاضوا الغدران ، وسمعت الرفاق المقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم صائحاً يصيح في السحاب : أتاك الغوث أبا حفص ، أتاك الغوث أبا حفص ، كل هذا ببركة المبتعث بالرحمتين ، والداعي إلى الحياتين الموعود بهما على يديه في الدارين صلى الله عليه وسلم صلاة تسعد ولا تنفد ، وتتصل ولا تنفصل ، وتقيم ، ولا تريم ، إنه منعم كريم .