الجوهر الباقي منّا إلى يوم الحشر والحساب ، مع اضمحلال الأجزاء البدنية ، وهي المحشورة إلى ربّها عند القيامة بالبدن الأخروي المماثل لهذا البدن بل عينه ، لأن هوية البدن وتشخّصه إنما هي بالنفس في مدة بقاء الكون ، وإن تبدلت الأعضاء بالاستحالات الحاصلة من الحرارات الغريزية الطبيعيّة ، والغريبة الداخلة والمطيفة بالبدن الخارجة . وبالجملة حقيقة الإنسان ليست إلا ذاته المجرّدة ، وكلّ ذات إنما يكون هلاكها في نقصها وضعفها وآفتها ومجاورة ضدّها ، ويكون بقاؤها في كمالها وقوتها وصحتها ومجاورة أشباهها في الكمال والصحة ، هذا وقد ثبت في محله أنّ لكلّ شيء كمالا خاصا يخصه لذاته ، فكمال القوة الشهوية نيل المشتهيات واللذائذ الحسّية ، وكمال القوة الغضبيّة الظفر بالانتقام ، وكمال القوة الحسّية إدراك المحسوسات ، وكمال القوة المتخيّلة تصوير المتمثّلات ، وكمال الواهمة الظنون والرجاء . وأما الأمر الأول : فنقول : وحيث علمت أنّ لكلّ شيء كمالا يخصّه فنقول : إنّ للنفس الإنسانية في ذاتها كمالا يخصّها ولها قوتان ، إحداهما : العاقلة النظرية وهي بهذه القوة متوجه إلى الحقّ الأول ، وثانيهما : العاملة المحركة للبدن المتوجهة إليه . فكمال النفس بحسب قوتها النظرية إنّما هو بمعرفة حقايق الأشياء ، وكليّاتها والمبادئ القصوى في الوجود . وبالجملة معرفة الحق الأول بما له من صفات جماله ، ونعوت جلاله ، وكيفية صدور أفعاله عنه ورجوعها إليه ، ومعرفة كونه تعالى غاية الأشياء الذي تتوجّه إليه الموجودات في بقائها ، كما يبتدي منه في حدوثها إلى غير ذلك من المعارف الحقة التي كانت مستعدة لها أولا عند كونها هيولانيّة الذات ، ثم يحصل لها بسبب حصول المقدمات صورها على نحو البرهان الدائم اليقيني . ثم ستصير المشاهدة إياها فائضة من الحقّ الأول ، ثم تصير متصلة بها منخرطة في سلكها مستغرقة في شهود مبدئها ومعادها ، بحيث لا يلتفت إلى ذاتها العارفة به تعالى فضلا عن غيرها ، بل