وإنما لم يصلوا إليها مع الإذعان بها لرسوخهم في القوة البهيميّة ، فهم ممنوعون عن مشاهدة آثار المعارف الإلهية حقا بتمامها ، ضرورة أنّ تقوية القوى الحيوانية توجب تضعيف قوى الإنسانية ، لورود هيئات نفسانية وإذعانات قاصرة قد عقدوا بها قلوبهم ، وقد أخذوها من البراهين المسلَّمة المتداولة بين عامة الفلاسفة ، التي انتزعت من أمور مادية خالية عن الحقّ والحقيقة . ضرورة أنّ أتقن البراهين في الفلسفة هو قاعدة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما ، الذي إليها يرجع امتناع اجتماع الضدّين أيضا كما حقّق في محلَّه ، وهذه كما ترى ناشئة عن المادة ، إذ العقل قد استنتجها من عدم إمكان جمع تفاحة مثلا مع عدمها ، أو ارتفاع نفسها وعدمه معا ، فمتعلقها ومنشأها هو المادة . ولعمري إنّ ما كان ناشئا من المادة كيف يمكن التوصل به للاشتمال والتوصل إلى المعارف الإلهية ، التي علمت أنّ لها وجودا واقعيّا في عالمها ، ولا يكاد يتحقق في عالم المادة ، لأنّها كما سيجيء مع ما لها من المدارك من الأخبار أنها خارجة عن المادة والمدة ، بل هي من الموجودات المجرّدة عنهما . نعم البراهين العلمية إنما تفيد حفظ الروح عن الانحراف فيوجب توجهه إليه تعالى فقط ، وأمّا درك تلك المعارف بها فلا ، ولذا نرى كثيرا من أكابر الفلاسفة يتهافتون في الكلام ، فيناقض كلام بعضهم مع بعض في الإلهيّات ، فكلّ يختار في علم الله شيئا على حسب ما يقتضيه دليله ، مع أنّ الواقع لا تفاوت فيه ، فحينئذ كيف يمكن الركون إلى أدلَّتهم لنيل تلك المعارف ؟ ولعمري إن قاطبة أهل الفلسفة غير المهذّبين منهم لا يكادون يصلون إلى المعارف أبدا ، ضرورة أنّ طريقها هو تهذيب الروح ، وهو لا يكون إلا بالسير الروحي ، ولا يكون هذا إلا بالسير الموصل وهو المأثور عنهم عليهم السّلام ، لأنهم العارفون بالطريق لا غير ، فالعلم النافع لا يحتاج إليه إلا بمقدار العمل للوصول ، فكثيره النافع أيضا غير مفيد فضلا عن غير النافع من الفلسفة وغيرها .