ولعمري إنّ الآيات والأحاديث الدالة على لزوم الإخلاص في العبادة ، ولزوم التوجه إليه ، وأن لا يغفل العبد عن ربّه ، كثيرة جدّا ، كلَّها دالَّة على لزوم هذا التوجه التّام . وما ذكره علماء السلوك من لزوم المراقبة والمواظبة وأمثالهما ، كلَّها ترجع إلى هذا التوجه التّام ، وقد مثّلوا لكون التوجه إليه موجبا للفناء عن النفس ، والبقاء بالرب ، بالقطعة من الحديدة المجاورة للنّار ، فإنها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول الصفات النّاريّة ، والقابلية المختفية فيها ، فإنها تتسخّن قليلا قليلا ، إلى أن يحصل منها ما يحصل من النّار من الإحراق والإضاءة وغيرها ، وقبل ذلك كان ظلمة كدرة . وهكذا الروح الإنسانيّة والنفس الناطقة القدسيّة ، القابلة للخلافة الإلهية والوجود الحقاني بالتصفية والتسوية ، كما أشير إلى هذه الروح بقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين 15 : 29 فالتوجه التام في الإنسان بمنزلة المجاورة الدائميّة للحديدة مع النّار ، فيوجب هذا التوجه انمحاء الجهة الخلقية والبشرية ، وظهور الجهة الربانية ، فكما أن النّار بمجاورة الحديدة لها أثّرت فيها ، بحيث أذهبت جميع آثارها من الظلمة والكدورة ، وظهرت فيها بآثارها ، بحيث صارت الحديدة نارا بآثارها ، مع أن الحديدة حديدة ، والنّار هي النّار ، من دون حلول ولا اتحاد ، بل ظهور آثار النار فيها ، فكذلك الإنسان بالتوجه التام إليه تعالى تذهب أوّلا آثاره الخلقيّة من المحجوبية والظلمة والجهل بحقائق الأمور ، وتظهر فيه آثار الربوبية من أنوار جماله وجلاله ، بما لها من الحقائق والمعارف . ثم لا يخفى أن هذا التمثيل إنما هو من باب ضيق مجال التعبير ، وفقد العبارة الوافية ببيان المراد ، وليس المثال منطبقا على المقصود على ما ينبغي ، ومؤديا للمطلوب كما هو حقّه ، فهو مقرّب من جهة ، ومبعّد من جهة ، بل من وجوه . فلا بدّ للَّبيب العارف فهم جهة التشبيه ، والوصول إلى المطلب بدون الوقوع في الجهات المبعّدة .