كلماته التي تنفد البحار دون نفادها ، وهذه رتبة الراسخين في العلم ، الذين هم ورّاث الأنبياء في العلم ، وليست رتبة المترسّخين بصورة العلم ، المتوسّمين باسمه ، الهاوين في مهوى الهوى وحبّ الرياسة ، فإنّ قطرة من هوى النفس مكدّرة بحرا من العلم الحقيقي . ثمّ اعلم أنّ نوازع الهوى مركوزة في النفوس الإنسيّة ، مستصحبة إياها من محتدها السفلي ومغرسها الهيولي ، ومنتهى الأرض السفلى . فالعلم الحقيقي بائن عمّن مهامّه الأفكار والتخيّلات الجزئيّة ، التي هي من نتائج القوى السفليّة ، فأفسدته وغيّرته عن إفادة ما يقتضيه ويوجبه - إذا كان نقيّا خالصا من شوائب الهوى والأغراض النفسيّة - من الارتقاء إلى العالم الأعلى ومجاورة المقربين ، ومكالمة القدّوسيّين ، فإنّ في اتّباع الهوى إخلادا إلى الأرض كما في قوله تعالى : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه 7 : 176 [1] . إن تطهير الفطرة - التي خلقت على التوحيد - من رذائل التخيّلات ، ومن الارتهان بالموهومات ، التي استرقت العقول الضعيفة ، والنفوس القاصرة ، والقوى الجزئيّة ، يكون من شأن البالغين من الرجال ، فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى ، ويسرح في ميادين القدس - أعاذنا الله وإيّاك من محبّة حطام الدنيا - واستجلاء نظر الخلق وعقائدهم . وحاصل الكلام أنّ المطالب الإلهيّة التي هي من الرفيق الأعلى إنّما هي مكلَّم ومحدّث - بالفتح - على القلب التقيّ ، ترد عليه التعريفات الإلهيّة لكثرة ولوج القلب على حريم القرب الإلهي وغسله كثائف دلائل البرهان بنور العيان ، واتّباعه لشريعة الملة البيضاء المحمدية ، ومنهاج عترته الطاهرة . فيتوغل حينئذ بحبوحة الأسرار الإلهيّة ، ويرتقي في معارج الاعتذار والاستغفار إلى مقام القرب الحقيقي .