وأنه من وصل إلى مقام المعرفة ، ومنها إلى قصر النظر في الذات الإلهية بالنحو المتقدم ، فلا يجب عليه حكم ولا عليه تكليف ، وهذا لا ريب في أنّه كفر محض . ولكن نقول في الجواب : إنّه قد ثبت في علم الكلام أنّ التكاليف الإلهيّة ألطاف محضة ، فإنه تعالى أوجب أمورا ، لأنّ العمل بها والاتصاف بها موجب لقرب العبد إليه تعالى ، ولشمول ألطافه الخاصّة له ، وأنّه يتنعّم بنعمه تعالى في الدنيا والآخرة بنحو أوضحه الشرع المقدس ، وأنه أيضا حرّم أمورا ، لأنّ العمل بها والاتّصاف بها موجب لبعد العبد عنه تعالى ، وشمول عذابه له ولو موقّتا فرضا ، وأنه يوجب تألَّمه في الدنيا والآخرة بنحو أوضحه الشرع المقدس أيضا ، وهذا أمر وجداني من الشرع من أنّ الإطاعة توجب الثواب ، والمعصية توجب العقاب والعذاب ، ولا يرضى لعباده الكفر ، وأن يشكروا بأن يطيعوه في جميع الأمور التي ترضيه . فلا محالة يرضى له الثواب المعدّ لهم على وفق طاعتهم ، فالأمر بالطاعة شرعا والنهي في المعصية شرعا أمر مسلَّم وبه ، يحصل الترغيب منه تعالى على الطاعة والتحذير من المعصية ، وهذا يوجب انقياد العبد للطاعة للثواب ، وأن لا يتمرّد فيعصي الله فيوجب بذلك على نفسه العقاب ، ويحصل له شوق للطاعة بداعي الثواب وخوف من المعصية ، ومما يستلزمه من العذاب . وأين هذا كلَّه من إمكان عفوه تعالى عن المعاصي مهما كانت كبيرة ، وكيف ينافي هذا تلك المعرفة الحاصلة من قصر النظر في الذات . فكما أنّه إذا علم أحد أنّ السلطان له رأفة بالنّسبة إلى الرعيّة فهو يعفو عنهم ، فلا يوجب هذا جرأة العبد في المعصية ، ولا يوجب تجويزا من السلطان في المعصية بداعي أنّي رؤوف عفوّ . أو إذا قال الملك إنّا قد هيئنا طبيبا لمعالجة الأمراض الناشئة من الزنا - والعياذ با لله - فلا ييأس من ابتلى بها ، فهل هذا الإعلام والأمر يوجب تجويزا لتلك المعاصي الموجبة لتلك الأمراض بداعي وجود الطبيب لها ؟ كلا وأبدا . فكذلك في المقام ، ضرورة أنّ قصر النظر في الذات ، والعلم بأنه تعالى منزّه عن