ثلاثة عوالم وثلاثة مسافرين ومنه يعلم : أنّ العوالم ثلاثة : عالم الحسّ والدنيا ، وعالم الغيب والعقبى ، وعالم القدس والمأوى . وأنّ المسافرين ثلاثة أصناف : صنف يسافر في الدنيا ورأس ماله المتاع والثروة ، وربحه المعصية والندامة . وصنف يسافر إلى الآخرة ورأس ماله العبادة وربحه الجنة . وصنف يسافر إلى الله تعالى ورأس ماله المعرفة وربحه لقاء الله . واعلم : أنّ المعرفة أصل كلّ سعادة ، والجهل رأس كلّ شقاوة ، فإن سعادة كلّ نشأة وعالم هو الشعور بما فيه ، حتى أنّ الدنيا وما فيها مع حقارتها وقلتها وبطلانها ، إنما ينال اللذة فيها من كان أبلغ في الحواس وأقوى في المشاعر الحيوانية ، فإنّ كلّ لذة هو نيل ما يلائم من حيث هو ملائم له ، والألم فقده أو نيل ما يضادّه . فإذا كانت البهجة واللذة في هذه الدنيا الدنية منوطة بالمعرفة والشعور ، فما ظنّك بعالم الآخرة التي قوامها بالنيّات والمعارف . ثم ما ظنك بعالم القدس ، الذي هو معدن العقول ، ومنبع المعارف ؟ فعليك بالحكمة والمعرفة . وأما الزهد والتقوى وسائر العبادات والرياضات ، فإنما هي كلَّها لإعداد الحكمة ، ومقدمة المعرفة ، وتصفية الباطن وتهذيب السرّ ، وتصقيل مرآة القلب بإبعادها عن الغشاوة والرين حتى تصير مجلوة يحاذي بها شطر الحق ، ويتراءى فيها وجه المطلوب المعشوق والمعبود الحقيقي . وأما الصفاء والصقالة فلكونها أمرا عدميا ليست مقصودة بالأصالة ، بل لأجل ما يظهر بها ، أو يتصور فيها من آيات الحقّ وجلايا وجهه الكريم . على أنّ الزهد في الدنيا على أي وجه كان لا يكون شيئا محضا ، لكون الدنيا ليست شيئا محضا ، والعاقل لا يزهد في اللاشيء . وفي الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله : " لو كانت الدنيا تزن عند الله بقدر جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " وفي القرآن : وما الحياة الدنيا إلا متاع