وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته ، كما أن الملِك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير ، أَبيض هو أم أسمر وإِنما يكلّفهم الإذغان بسلطانه والانتهاء إلى أمره ، ألا ترى أن رجلاً لو أتى إلى باب الملك فقال : أعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإِلا لم أسمع لك ، كان قد أحلّ نفسه العقوبة ، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه . أقول : وعلى مثل هذا البديع من البيان ، والساطع من البرهان ، أتمَّ الصادق عليه السّلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر ، فقال في آخر كلامه : يا مفضّل خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ، ولآلائه من الحامدين ، ولأوليائه من المطيعين ، فقد شرحت من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلاً من كثير وجزءاً من كلّ ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به . يقول المفضّل : فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله [1] . أقول : حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحِكم كما اغتنمها المفضّل ، فقد أوضح فيها أبو عبد اللّه من حِكم الأسرار وأسرار الحِكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه . وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا إلى إِحاطته عليه السّلام بفلسفة الخلقة ، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفاً إِلهيّاً ، وعالماً كلامياً ، وطبيباً نطاسيّاً ، ومحلّلاً
[1] طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار 20 / 17 - 47 وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي ، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق ، وأصحّها طبعاً ما طبع في المطبعة الحيدريّة في عام 1369 هجري . والشواهد على نسبة هذا التوحيد إلى الصادق عليه السّلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها .