وإذَا ثَبَتَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ ، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهُ ، وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ ، وَيَكُونُ نَجِساً ، فَإِنْ فَرَّقَ بِطِيبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ ، وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ ، فَيُقَالُ : طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ ، وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفاً ، وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ - أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ ، وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضاً ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ ، فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِباً لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى ، وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا .الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ ، وَالطَّبَقَةِ النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ ، وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ ، حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَداً يُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةَ دَرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ ، وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ، وَإِذَا فَارَقَ الطَّهَارَاتِ دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ طَاهِراً ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهاً ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ ، وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ ، وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً } .قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ ، فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ ، وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ ، وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ ، فَكَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ .فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قِيَاسُ التَّمْثِيلِ ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ .وَالثَّانِي : قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطٍ أَصْلِيٍّ كُلِّيٍّ .وَالثَّالِثُ : التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا .فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ أَصْلٌ ، وَوَصْلٌ ، وَفَصْلٌ .