أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهَاتُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ : " { اتَّقُوا الْبَوْلَ } " .وَقَوْلِهِ : " { كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ الْبَوْلُ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ } " .وَالْمُنَاسَبَةُ أَيْضاً فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالرَّوْثَ مُسْتَخْبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ ، تَعَافُهُ النُّفُوسُ عَلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ ، وَهَذَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ حَمْلاً لِلنَّاسِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَمَحَاسِنِ الْأَحْوَالِ ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ تَنَجُّسُ أَرْوَاثِ الْخَبَائِثِ .الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ إذَا فَحَصْنَا وَبَحَثْنَا عَنْ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ وَالطَّهَارَاتِ ، وَجَدْنَا مَا اسْتَحَالَ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ عَنْ أَغْذِيَتِهَا ، فَمَا صَارَ جُزْءاً فَهُوَ طَيِّبُ الْغِذَاءِ ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ خَبِيثُهُ ، وَلِهَذَا يُسَمَّى رَجِيعاً ، كَأَنَّهُ أُخِذَ ثُمَّ رُجِّعَ ، أَيْ رُدَّ .فَمَا كَانَ مِنْ الْخَبَائِثِ يَخْرُجُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ : كَالْغَائِطِ ، وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ ، وَالْوَدْيِ ، فَهُوَ نَجِسٌ .وَمَا خَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى : كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ ، وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ ، وَنُخَامَةِ الرَّأْسِ ، فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَمَا تَرَدَّدَ : كَبَلْغَمِ الْمَعِدَةِ ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ ، وَهَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ ، وَأَسْفَلِهِ ، قَدْ جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوِهِ ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ الَّذِي لَمْ يُفْقَهْ كُلَّ الْفِقْهِ ، حَتَّى زَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ ، وَابْتِلَاءٌ ، وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَنْ يُطِيعُ ، وَبَيْنَ مَنْ يَعْصِي ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ ، حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ ، فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ مِنْ مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ : كَالرَّوْثِ ، وَالْقَيْءِ ، وَمَا اسْتَحَالَ فِي مَعِدَتِهِ : كَاللَّبَنِ .