وبعد دقة فائقة في الملاحظة والفحص ، اكتشف ان الدجاجة تقوم في ساعات معينة ، بتبديل وضع البيضة وتقليبها ، من جانب إلى جانب ، فأجرى التجربة في جهازه الخاص مرة أخرى ، مع اجراء تلك العملية التي تعلمها من الدجاجة ، فنجحت نجاحا باهرا . فقل لي بوجدانك ، من علم الدجاجة هذا السر الذي خفي على ذلك العالم الكبير ؟ أو من ألهمها هذه العملية الحكيمة التي لا يتم التوليد الا بها ؟ وإذا أردنا ان ندرس الغرائز بصورة أعمق ، كان علينا ان نعرض أهم النظريات في تعليلها وتفسيرها ، وهي عديدة : النظرية الأولى : ان الحيوان اهتدى إلى الافعال الغريزية ، بعد محاولات وتجارب كثيرة ، فأدمن عليها وصارت بسبب ذلك عادة موروثة ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، دون ان يكون في تعلمها موضع للعناية الغيبية . وتحتوي هذه النظرية على جزءين ، أحدهما ان الحيوان توصل أول الامر إلى العمل الغريزي ، عن طريق المحاولة والتجربة . والآخر انه انتقل إلى الأجيال المتعاقبة ، طبقا لقانون الوراثة . ولا يمكن الاخذ بكلا الجزأين . أما الجزء الأول من النظرية ، فهو غير صحيح ، لان استبعاد الحيوان للمحاولة الخاطئة ، والتزامه بالمحاولة الناجحة وحرصه عليها ، يعني انه أدرك نجاحها وخطأ غيرها من المحاولات ، وهذا ما لا يمكن الاعتراف به للحيوان ، وخاصة فيما إذا كان نجاح المحاولة لا يظهر الا بعد موت الحيوان ، كما في الفراش حين يصل إلى الطور الثالث من حياته ، إذ يضع بيضه على هيئة دوائر على الأوراق الخضراء ، فلا يفقس الا في الفصل التالي ، فيخرج على هيئة ديدان صغيرة ، في الوقت الذي تكون فيه الام قد ماتت ، فكيف أتيح للفراش ان يعرف نجاحه فيما قام به من عمل ، ويدرك انه هيأ بذلك للصغار رصيدا ضخما من الغذاء ، مع انه لم يشهد ذلك ؟ أضف إلى ذلك ان الغريزة لو صح انها وليدة التجربة ، لأوجب ذلك تطور الغريزة وتكاملها في الحيوانات على مر الزمن ، وتعزيزها على ضوء محاولات وممارسات أخرى ، مع ان شيئا من هذا لم يحدث .