بالعقلية التجريبية التي شاعت بداية الانقلاب الصناعي ( 1 ) وبروح الشك والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي ، في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة ( 2 ) وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم ، الذي كان يجمد الأفكار والعقول ، ويتملق للظلم والجبروت . وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين ( 3 ) . فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية ، في كثير من العقليات الغربية . . .
1 - فان التجربة اكتسبت أهمية كبرى في الميدان العلمي ، ووفقت توفيقا لم يكن في الحسبان إلى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن اسرار مدهشة ، أتاحت للانسانية أن تستثمر تلك الاسرار والحقائق في حياتها العملية . وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة . أشاد لها قدسية في العقلية العامة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقلية ، وعن كل الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحس والتجربة ، حتى صار الحس التجريبي في عقيدة كثير من التجريبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم . وسوف نوضح في هذا الكتاب أن التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي ، وأن الأساس الأول للعلوم والمعارف هو العقل ، الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحس كما يدرك الحقائق المحسوسة . ( 2 ) فان جملة من العقائد العامة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العام ، مع أنها لم تكن قائمة على أساس من منطق عقلي أو دليل فلسفي ، كالايمان بأن الأرض مركز العالم . فلما انهارت هذه العقائد في ظل التجارب الصحيحة ، تزعزع الايمان العام ، وسيطرت موجة من الشك على كثير من الأذهان ، فبعثت السفسطة اليونانية من جديد متأثرة بروح الشك ، كما تأثرت في العهد اليوناني بروح الشك الذي تولد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدة الجدل بها . ( 3 ) فان الكنيسة لعبت دورا هاما في استغلال الدين استغلالا شنيعا ، وجعل اسمه أداة مآربها ، وأغراضها وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيات الواسعة للتصرف في المقدرات ، حتى تولد عن ذلك كله التبرم بالدين والسخط عليه ، لان الجريمة ارتكبت باسمه ، مع انه في واقعه المصفى وجوهره الصحيح لا يقل عن أولئك الساخطين والمتبرمين ضيقا بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها .