آخر ، لكن الفكرة عندما تنزّلت من مرتبة إلى أخرى لم يفقد الإنسان علمه بها ، بل هي ما تزال تحافظ على وجودها قبل التنزّل وبعده ، غاية ما هناك أنّها ظهرت في مرتبة أخرى من مراتب الوجود دون أن تفقد مرتبتها السابقة . طبيعي أنّ للفكرة في مرتبتها الوجوديّة الجديدة أحكامها الخاصّة بها ، فإنّ الفكرة وهي في الذهن موجودٌ مجرّد غير قابل للنقل والسرقة مثلاً ، لكنّها وهي على الورق تنطبق عليها أحكام المادّة ، فهي قابلة للانتقال والسرقة وما إلى ذلك . فالفكرة هي هي ، وهي غيرها . هي هي لأنّ المضمون واحد ، فما هو موجود في الذهن وما هو على الورق واحد ، بيدَ أنّهما يختلفان في المرتبة الوجوديّة ، فللفكرة في الذهن درجة وجوديّة مجرّدة عن المادّة ، أمّا على الورق فهي في درجة وجوديّة أخرى . وهذا النحو من النزول هو الذي يصطلح عليه القرآن بالتجلّي كما في قوله تعالى : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) ( الأعراف : 143 ) . وبهذا يتّضح معنى قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) , فإنّ المراد من التنزّل من الخزائن الإلهيّة هو ظهور الأشياء في الكون بعدما لم تكن . وهو الذي يفسّر لنا حقيقة العلم الفعلي للحقّ تعالى ، وهو ظهور معلوم الحقّ سبحانه على ما علمه من علمه في مقام الذات . ولازمه أنّ علم الله سبحانه الذاتي لا يتحوّل ويتنزّل ليكون علماً فعليّاً عينيّاً في الخارج ، لأنّه لو كان كذلك لفقد مرتبته . هذا كلّه بحسب قوس النزول ، كذلك الأمر في قوس الصعود من هذا العالم إلى العوالم الأخرى ، يقول سبحانه : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) ( فاطر : 10 ) ، فليس معناه أنّ الإنسان إذا صعد مرتبة وجوديّة ، فَقَدَ مرتبته السابقة ، بل هو صعود على نحو التجلّي ، كما أنّ ذاك تنزّل على نحو التجلّي .