وقال الرازي في المباحث المشرقيّة : « إنّ الإنسان يمكنه أن يتعلّم من نفسه ، وكلّ ما كان كذلك فإنّه يسمّى حدساً ، وهذا الاستعداد يتفاوت في الناس ، فربّ إنسان لو أكبّ طول عمره على تعلّم مسألة ، تعذّر عليه ذلك وانصرف عنه بدون مطلوبه ، وربّ إنسان يكون بالعكس حتّى أنّه لو التفت ذهنه إليه أدنى لفتة حصل له ذلك ، ولما رأينا أنّ الدرجات فيه متفاوتة والمراتب مختلفة بالقوّة والضعف والأقلّ والأكثر ، فلا يبعد وجود نفس بالغة إلى الدرجة القصوى في القوّة وسرعة الاستعداد لإدراك الحقائق ، حتّى كان ذلك الإنسان يحيط علماً بحقائق الأشياء من غير طلب منه وشوق ، بل ذهنه ينساق إلى النتائج من غير مزاولة منه لذلك ، ثمّ من تلك النتائج إلى غيرها حتّى يحيط بغايات المطلب الإنسانيّة ونهايات الدرجات البشريّة ، وتلك القوّة تسمّى قدسيّة ، ومخالفتها لسائر النفوس بالكمّ والكيف » [1] . السؤال الثاني : قد يُقال إنّ الظاهر من أغلب النصوص المتقدِّمة أنّ هذه الروح حقيقة غيبيّة مستقلّة في وجودها ، فكيف ينسجم ذلك مع البيان المتقدِّم من أنّها قوّة من قوى نفس النبيّ والوصيّ ؟ الجواب : أنّه لا تنافي بين الاحتمالين ، فلا محذور من أن يكون الشيء الواحد خلقاً من خلق الله تعالى مستقلاًّ في نفسه ، وله مظهر وتجلٍّ في الإنسان بنحو يمثِّل قوّة من قواه ، تنبعث منها آثار معيّنة . ولا أوضح من العقل الذي هو مخلوق لله تعالى مستقلّ كبقيّة المخلوقات ، كما ورد عن محمّد
[1] المباحث المشرقيّة في علم الإلهيّات والطبيعيّات ، للإمام فخر الدِّين محمّد بن عمر الرازي ، مكتبة الأسدي بطهران ، 1966 م : ج 1 ص 353 .