إذن هناك رؤية أخرى غير الرؤية المادّية التي يشترك فيها جميع البشر بما فيهم الكافر والفاسق ، وتلك الرؤية هي الميزان الحقيقي لتمييز الناس . وهذا ما أكّده جملة من المحقّقين في هذا المجال ؛ قال الطباطبائي : « إنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصريّة الحسّية ، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسّية أو فكريّة » [1] . لذا نجد أنّ الله تعالى يمدح إبراهيم وذرّيته الذين اصطفاهم لتوفّرهم على هذه الرؤية الباطنيّة كما في قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ) ( ص : 45 ) . وهذا المعنى يلتقي مع ما ذهب إليه اللغويّون من إطلاق البصر على الرؤية الظاهريّة التي تختلف عن البصيرة التي تطلق على الرؤية القلبيّة ؛ قال الراغب الأصفهاني : « البصر يُقال للجارحة الناظرة نحو قوله : ( كلمح البصر ) ويُقال لقوّة القلب المدركة : بصيرة وبصر نحو قوله : ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق : 22 ) ، وجمع البصر أبصار ، وجمع البصيرة بصائر ، ولا يقال للجارحة بصيرة » [2] . وبهذا يتّضح السبب في نسبة العمى إلى القلب في قوله تعالى : ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ ) ( الحجّ : 46 ) ، ممّا يعني توفّر القلوب على أعين باطنيّة ، وإذا عميت سوف يحجب الإنسان عن رؤية حقيقة الأشياء وملكوتها . ومنه يتبيّن معنى قوله تعالى : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ( النجم : 11 ) , فإنّ
[1] الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ج 8 ص 240 . [2] المفردات في غريب القرآن ، مصدر سابق : ص 49 . مادّة « بصر » .