قال : « فإن قلت : هذا الكلام يشير إلى أنّ هذه العلوم لها ظواهر وأسرار ، وبعضها جليّ يبدو أوّلاً وبعضها خفيّ يتّضح بالمجاهدة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسرّ الخالي عن كلّ شيء من أشغال الدُّنيا سوى المطلوب ، وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع ، إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسرّ وعلن ، بل الظاهر والباطن والسرّ والعلن واحدٌ فيه ؟ فاعلم أنّ انقسام هذه العلوم إلى خفيّة وجليّة لا ينكره ذو بصيرة ، وإنّما ينكره القاصرون الذين تلقّفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه ، فلم يكن لهم ترقٍّ إلى شأو العلاء ومقامات العلماء والأولياء ، وذلك ظاهر من أدلّة الشرع . قال صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم : إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً وحدّاً ومطلعاً ، وقال عليّ رضي الله عنه - وأشار إلى صدره - : إنّ هاهنا علوماً جمّة لو وجدتُ لها حَمَلة ، وقال صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم : ما حدّث أحد قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم إلاّ كانت فتنة عليهم ، وقال الله تعالى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت : 43 ) . وقال صلّى الله عليه ] وآله [ وسلّم : « إنّ من العلوم كهيئة العلم المكنون لا يعلمه إلاّ العالمون » [1] . ثمّ قال في موضع آخر : « ومن زعم أن لا معنى للقرآن إلاّ ما ترجمه ظاهر التفسير ، فهو مخبر عن حدّ نفسه ، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه ، ولكنّه مخطئ في الحكم بردّ الخلق كافّة إلى درجته التي هي حدّه ومحطّه ، بل الأخبار والآثار تدلّ على أنّ في معاني القرآن متّسعاً لأرباب الفهم ، قال علي رضي الله عنه : إلاّ أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن . فإن لم يكن سوى الترجمة
[1] إحياء علوم الدِّين ، تصنيف الإمام أبي حامد محمّد بن محمّد الغزالي ، المتوفّى سنة 505 ه - ، دار المعرفة ، بيروت ، 1402 ه : ج 1 ص 99 .