ويوضّح هذا الإدّعاء ، وهذا الاستخلاف ، أنّ المسألة لم تكن شورى ، بل هي نص إلهي على خلافة المسلمين بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وبثّ الأمويّون دعاتهم في الأمصار ليبلّغوا بهذا الدستور الإسلامي الصحيح الذي صرفوا مصاديقه وأبقوا المفهوم على حاله ، يقول روح بن زنباع الجذامي لأهل المدينة حين أبطأوا عن بيعة يزيد : ( إنّا لا ندعوكم إلى لخم وجذام وكلب ، ولكنّا ندعوكم إلى قريش ومن جعل الله له هذا الأمر واختصّه به ، وهو يزيد بن معاوية ) [1] . فحرّف ابن زنباع مصاديق مفهوم النص والوصيّة ؛ ليحوّل الشرعيّة من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى يزيد الذي كفّره القريب والبعيد . واعترف أحمد الكاتب بهذا الفكر السياسي الأموي ، وقال : ( إنّ الأمويين كانوا يقولون للمسلمين : إنّ الله اختارهم للخلافة وآتاهم الملك ) [2] . وراح الأمويون يلصقون مفهوم العصمة بهم ، وأطلق الحجّاج لقب المعصوم على عبد الملك بن مروان ، وقال في رسالة وجهها إليه : ( لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين ، المؤيّد بالولاية ، المعصوم من خطل القول وزلل الفعل بكفالة الله الواجبة لذوي أمره ) [3] . فالفكر السياسي الأموي قائم على مفاهيم الوصيّة والنص والعصمة من الله تعالى ، لما لتلك المفاهيم من شرعيّة اكتسبتها من أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . إذن ، ليس للشورى نصيب في الفكر السياسي الإسلامي في عصوره الأُولى . أمّا الفكر العبّاسي فكان يقوم على مفهوم النصّ والوصيّة من علي ( عليه السلام ) إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة ، وإلى أبي هاشم . فكلّ تلك الأفكار كانت مبنيّة على مفاهيم الولاية والنص والعصمة ، فأين مبدأ الشورى الذي يقرّه أحمد الكاتب دستوراً للمسلمين ؟ ولا يتوقّع أحد أنّ الأمويين
[1] البيان والتبيين : ج 1 ، ص 392 . [2] أحمد الكاتب ، تطوّر الفكر السياسي : ص 47 . [3] العقد الفريد : ج 5 ، ص 25 .