البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلَّا ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلَّا هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك الطَّبائع إلَّا أمد منها كل ذات داء . حتى فتر مُعَلِّله ، وذُهِلَ مُمَرِّضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجيِّ خبر يكتمونه ، فقائلٌ يقول هو لما به ، ومؤمِّلُهم إياب عافيته ، ومصبِّرٌ لهم على فقده ، يذكَّرهم أسى الماضين من قبله . فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبة إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه . فكم من مهمٍّ من جوابه عرفه فعيِّ عن ردِّه ، ودعاء مؤلمٍ بقلبه سمعه فتصامِّ عنه من كبير كان يعظَّمه ، أو صغير كان يرحمه . وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا ) . ( نهج البلاغة : 2 / 210 ) . وقال ( عليه السلام ) وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة : يا أهل الديار الموحشة ، والمحالِّ المقفرة ، والقبور المظلمة . يا أهل التّربة ، يا أهل الغربة . يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة . أنتم لنا فَرطٌ سابق ، ونحن لكم تبع لاحق . أمّا الدُّور فقد سكنت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، وأما الأموال فقد قسمت . هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى ) . ( نهج البلاغة : 4 / 31 ) . وقال ( عليه السلام ) بعد ضربته التي قتل فيها : أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقكم . . وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً ، وستعقبون مني جثة خلاء ، ساكنة بعد حركة ، وكاظمة بعد نطق ، ليعظكم هدوِّي وخفوف إطراقي ، وسكون أطرافي ، فإنه أوعظ لكم من الناطق البليغ . ودعتكم وداع مُرْصِد