وبمن استجمع شرائطهما والاختلاف فيهما يؤديان إليه من الحكم ، شرط أن لا يتجاوز المجتهد والمستنبط الاختلاف فيما يفهم من الألفاظ الواردة عن الشارع منطوقا أو مفهوما بإحدى الدلالات من المرخص به منه ، وهو مما امتحنت به العقول ، بل هو من تمام لطفه تعالى ، لأنه به صيانة الأحكام وحماية دين الإسلام من أن يدخل فيه ما ليس منه . 5 - إن الله عز وجل أرجع في محكم كتابه وفي سنة نبيه الجاهلين إلى أولئك المستنبطين في فهم أسرار الشريعة وفي أحكامها منهم ، ولم يدع الأمة فوضى تتحكم فيها بمحض الآراء ، وهم ليسوا أنبياء موحى إليهم . 6 - إن الأمة الإسلامية كما جاء في الحديث المستفيض من افتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة [1] لم تفارق بهذا الافتراق سنة الله في خلقه ، وكانت فيه كما نص عليه الحديث كأمة موسى التي افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة ، وأمة عيسى التي افترقت إلى اثنتين وسبعين فرقة ، ولو كان من سنته تعالى الإكراه والالجاء في التكليف ولم يدعه إلى اختيار المكلفين ، لما كان ذلك الافتراق في أمتي موسى وعيسى ( عليهما السلام ) ولا في أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاتم رسله . على أن معنى عدم الإلجاء في التكليف ليس هو ترك حبل المكلف على الغارب وتخليته وشأنه يتخبط في شكوكه وأوهامه ، بل معناه ترك الاختيار له بعد أن هداه الله النجدين ونصب له الدلائل على دينه الحق وأمده بلطفه ، ولم يكتب البقاء لجل الفرق المتفرعة عن الإسلام ، وقد ابتعدت ابتعادا كليا عن روحه وتعاليمه الحقة ، ومنها من لم يصدق عليه اسم الإسلام ، وما بقي منها فمحاط بإطار من الأسرار محجوب عن الأنظار ، ولكنه تعالى كتب البقاء والدوام لفرقتي السنة والشيعة الإمامية اللتين مهما اختلفتا في بعض أمور اجتهادية سواء أكانت في العقائد أم في الأحكام ، فإنهما من حيث روح الإسلام وجوهره وحده ، ولا غرو فإن من سنته تعالى بقاء الأنسب والأصح في كل شئ ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [ الرعد / 17 ] .
[1] تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ، بيروت ، ج 4 ، ص 181 .