العام يخضع في تركيبته إلى اعتبارات متفاوتة من حيث الوعي والإدراك والمستوى الثقافي ، فهو يتأثر بكثير من المعطيات التي لا يعرف ولا يدرك خلفياتها ، ولا حتى أهدافها وأبعادها ، إنما ينساق بشكل عفوي وطبيعي باتجاه الأمور الجاهزة والتي تعتبر عنده بحكم المسلمات ، كونها تصدر عن رموز يراها - بحكم تركيبته - أنها تصلح لأن تكون في موقع القرار والحكم والإرشاد ، بينما هي في واقع الأمر وأساسه لها حكم آخر عند ذوي الاختصاص وأهل المعرفة والخبرة والكفاءة ، إذ هي في الحالة الأولى - عند الرأي العام - علاقة بين مرسل ومتلقّي يقبل ما يلقى إليه دون مناقشة وتحليل أو - ربما - حتى دون أدنى مراجعة ، وذلك للأسباب التي ذكرناها . بينما في الحالة الثانية ، فهي مختلفة اختلافا جوهريا من حيث القبول والأخذ . فالميزان والحكم الفصل في كلتا الحالتين ، هو في خضوع أو عدم خضوع المسألة للاعتبارات العلمية ، ولقواعد المنطق ، وأصول البحث العلمي ، وكذا خضوعها لضوابط علمية دقيقة تميّز بين ما هو صحيح وما هو فاسد ، وإلا لزم أن لا تكون هناك حقيقة على الاطلاق ، وهذا خلاف الفطرة والمنطق والقانون والوجدان والبرهان . وهنا تبرز بوضوح أهمية الكفاءة العلمية ، وقيمة الأفكار من حيث قوة دليلها وحجتها ومدى صدقيتها وواقعيتها ، وانسجامها مع النسق العام في الدائرة العلمية والثقافية . فالمقياس الصحيح والسليم في صحة الفكرة وصدقها وواقعيتها وسلامتها ، هو في مدى صمودها أمام النقد العلمي ، وتستمد مبرر وجودها واستمرارها من خلال ما تملكه وتحتويه من عناصر قوة الدليل والبرهان . فليس المقياس - ولا يمكن أن يكون - هو في التماس شفاعة الكثرة العددية للذين يتبنون هذه الفكرة أو تلك ، لكي تكون هذه الكثرة بديلا عن الدليل العلمي والضوابط والعلمية . وأيضا لا يمكن أن تكون صحة الفكرة وسلامتها ، مستمدة من المواقع الاجتماعية والسياسية ؛ باعتبار أن هذه المواقع عبارة عن بناءات فوقية ترتكز على مجموعة من الأفكار التي تقوم عليها وتكوّن أساسها . فالكفاءة العلمية