الخوض والجهاد العلمي لتنقيح الآثار ، وتنزيه الطرق من الوضع والكذب ، وفي مقابل ذلك قدّمت طائفة أخرى أَفكاراً غريبة متنكّرة لنشر السنن ، ثم حاولوا ترويجها بين الناس . ومن بين أُولئك طائفة أَخذت على عاتقها طريقة سماع الحديث من دون معرفة الصحيح والضعيف ، أَو عمّن يأخذ منه الحديث . وآفة هذه المناهج رسوخ الإِسرائيليات في السّنن ، واتخاذ الفاجر الفاسق المتجاهر بالفسق من الخلفاء والملوك واعتبارهم ثقات وعدولاً يجب العمل بأوامرهم وأَقوالهم ! وأَمثلة ذلك كثيرة جداً في المحدّثين الذين عاشوا في عصر الأَمويين ، وبعدهم في العباسيين . وقد ذكرنا في كتابنا « تدوين الأُمويين للحديث النبوي » دور ابن شهاب الزُّهري ، وعبد الله بن ذكوان أَبي الزناد [1] في خدمة بني أُمية ، ونشر أفكار الأُمويين تحت غطاء الحديث النبوّي الشريف ! . وطائفة أُخرى قدمت الرأي والنظر على الحديث ، ليتّسع مجال الفكر والنظر في بيان السنن ، فعند هؤلاء القوم يكون المستدلُّ بالحديث في بيان السنن موصوماً بقلّة العلم والإِساءة ، لعدم قدرته على الاستنباط والاجتهاد ، ولهذا أَشار الأَعمش حين قال للنعمان : « أَنتم الأَطباء ، ونحن الصيادلة » . [2] ففي الحجاز مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وفيها من الصحابة والتابعين من المحدّثين بلا مدافع ، فقد أَبرزت زعامتها للمدارس الفقهية ، وتوافرت فيها الأَسباب ، لأنّها موطن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأَهل بيته ، وبها مقام جمهور الصحابة المخاطبين للرسول ( صلى الله عليه وآله ) . وفي العراق أَيضاً نشأت فكرة بعض الصحابة ، نزل بها ثلاثمائة من أَصحاب
[1] هو عبد الله بن ذكوان ابن أَخي أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب ، ومن الرجال المكثرين في البخاري مع ابنه عبد الرحمن بن أَبي الزِّناد . سير أَعلام النبلاء 5 : 445 . [2] جامع بيان العلم 2 : 130 روى : أَنَّ الأَعمش قاله لأبي يوسف ، وقال الآخر : قاله لأبي حنيفة .