الرأي والأَقيسة في العمل بالشرعيات منهجاً ومسلكاً ، ولذلك قالوا في كتبهم الأُصولية : عند التعارض في الأَدلة يحكم بالرأي ويعمل بشهادة القلب ، لأنّ قلب المؤمن نور يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه ، كما أَشار إِليه ( صلى الله عليه وسلم ) : « اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور الله » ، رواه الترمذي . [1] بذلك نهضت طائفة على نصرة مذهب أَبي حنيفة في العمل بالرأي ، وتأسيس قواعد للاستنباط في الأَحكام الشرعية عند فقد الدليل اللازم بتضعيفهم للأدلة الموجودة والآثار . وقد وجد العمل بالرأي دون الأَحاديث والآثار النبوية الموجودة بأيدي المحدّثين ، دعماً حكومياً وبدأَ لترويجها وإِمدادها بأيِّ نحو ممكن . ولذلك شواهد كثيرة في استخدام القضاة المتأثرين بفكر أَبي حنيفة ، ومنحهم الألقاب ووصفهم بالمجتهدين والفقهاء ، أَمّا أَهل الأَخبار المقلّدون للصحابة اتخذوا في المدينة وفي غيرها من البلاد طريقة المعاداة والطعن على أَهل الرأي والأَقيسة ، خاصة على إِمام أَهل الرأي أَبي حنيفة ، وكتبوا وأَعلنوا فسقه وخروجه عن حدّه ، وأَدرجوا اسمه في « ديوان الضعفاء والمتروكين » . ومن الذين جحدوا فكرة أَبي حنيفة من المحدّثين : محمد بن إِسماعيل البخاري صاحب « الصحيح » ، فإنّه قام بعد قرن من عصر أَبي حنيفة ، وكتب « الصحيح » ، حينما أمره جماعة من شيوخه بتصنيف ذلك في الدفاع عن الحديث والآثار النبوية المتلقَّاة من الصحابة والتابعين ، فاشتهر بذلك في الأَمصار . القرن الأَوّل توارث المحدّثون من بعد الصحابة أَمراً عظيم الأَهمية ، وعندما نشرت السنن وكثر الاختلاف في نقلها لم تكن هذه المهمة هيّنة حتى نهضت لها طائفة منهم على
[1] التقرير والتحبير لابن أَمير الحاج المتوفى 879 ه ج 3 : 5 ط دار الفكر .