ينبغي أَن نلتفت إِلى أَنّ الصحاح المشهورة عند السّنّة دوِّنت وانتشرت في البلاد بين هذه الفترة الزمنية التي تُعدُّ من أَنشط العصور في جمع السنن والتدوين والتبويب . وازداد بذلك اهتمام الخلفاء بأمر الحديث ، مع تشجيعهم على ترجمة الكتب الفلسفية من اليونانية ، والفارسية ، والهندية ، إِلى العربية وتصرفوا فيها بأنواع الباطل في الاُمور الإِلهية ، فتعمقت هّوة الخلاف بين العلماء والمحدّثين ، وصار الناس فيها أَشتاتاً ، وتفرقت كلمة الإِسلام ، وتمّت الأَغراض المكنونة في قلوب الذين لهم زيغ وأَهواء . أَلا ترى أَنَّ المأمون ، والمعتصم ، والواثق كيف ساقوا المحدِّثين إِلى الإِعتزال ، والمتوكل إِلى النصب ومعارضة الإِعتزال ، والردّ على الجهمية ، وانتشار الخلاف في نشر أَحاديث التشبيه ؟ ! ولا شبهة في أَن البخاري قد عاصر هؤلاء الملوك ! ! . ويشهد على اعتقاده المتأثر في التوحيد أَبواب متعددة من كتابه « الصحيح » الذي تعتمد عليه أَكثر من كتبه الأَخرى ، فمن تأمّل في تراجمه وأَحاديثه يعلم - دون ريب - أَنّه أَخرج في صحيحه أَخبار المجسِّمة والنصارى في الله تبارك وتعالى . صحيح إِن الإِعتقاد بالتجسيم يوجد لدى غيره من المحدِّثين ، ولكن البخاري أَورد من الأَحاديث ما جعل ابن حجر العسقلاني يستنكر ذلك . فقد أَخرج عن شريك بن عبد الله بن أَبي نمر ، عن أَنس بن مالك أَنّه ذكر المعراج ، فقال فيه : « فَعَلا بِهِ إِلى الجَبّار تَعالى ، فَقالَ وَهوَ في مَكانهِ : يَا ربِّ ! خَفِّف عَنّا » . [1] قال ابن حجر : « قال الخطابي : ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - حديث أَشنع مذاقاً من هذا الفصل . . . » . [2] والمكان لا يضاف إِلى الله عزّ وجل . وقال الخطابي أَيضاً : وفي هذا الحديث « فاستأذَنْتُ على ربّي وهو في داره » ،
[1] فتح الباري 13 : 478 . [2] فتح الباري 13 : 483 .