وإذا كان في الرزية الأولى مريضاً طريح الفراش ، فقد اضطرّ في الثانية أن يخرج معصّب الرأس ، مدثّراً بقطيفة ، يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ، وخطب فيهم خطبة كاملة من فوق المنبر ، بدأها بتوحيد الله والثناء عليه ، ليشعرهم بذلك بأنه بعيد عن الهجر ، ثمّ أعلمهم بما عرفه من طعنهم ، ثمّ ذكّرهم بقضية أُخرى طعنوا فيها من قبل أربع سنوات خلت ، أفهل يعتقدون بعد ذلك بأنّه يهجر ، أو أنّه غلبه الوجع ، فلم يعد يعي ما يقول ؟ ! سبحانك اللّهم وبحمدك ! كيف يجرؤ هؤلاء على رسولك ، فلا يرضون بالعقد الذي أبرمه ، ويعارضونه بشدّة حتّى يأمرهم بالنحر والحلق ثلاث مرّات ، فلا يستجيب منهم أحد ، ومرّة أخرى يجذبونه من قميصه ، ويمنعونه من الصلاة على عبد الله بن أبيّ ويقولون له : " إنّ الله قد نهاك أن تصلّي على المنافقين " [1] ! وكأنهم يعلّمونه ما نزل إليه ، في حين أنّك قلت في قرآنك : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) [2] . وقلت أيضاً : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) [3] . وقلت وقولك الحقّ : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) [4] . فعجباً لهؤلاء القوم الذين ينزلون أنفسهم فوق منزلته ; فمرّة لا يمتثلون لأمره ، ومرّة يتهمونه بالهجر ، ويكثرون اللّغط بحضرته في غير احترام ولا أدب ،
[1] أنظر صحيح البخاري باب الجنائز 2 : 6 ، مسند أحمد 2 : 18 ، سنن الترمذي 4 : 343 ، سنن النسائي 4 : 37 ، السنن الكبرى للبيهقي 8 : 199 ، صحيح ابن حبّان 7 : 447 ، الاستيعاب 3 : 941 . [2] سورة النحل : 44 . [3] سورة النساء : 105 . [4] سورة البقرة : 151 .